لا أستغرب أن يكون الناس، بعد طول عناء المرحلة الانتقالية، يتوقون إلى من يفرض على البلد الأمن والنظام ويقضى على الفوضى والانفلات اللذين باتا جزءين من حياتنا اليومية. ولا أستغرب أيضا أن يكون رد فعل الكثيرين منهم تجاه هذا الوضع هو البحث عن المرشح الرئاسى الذى يوحى بالقوة وبالقدرة على الضبط والربط باعتبار أن هذه هى المؤهلات المطلوبة الآن. هذا رد فعل طبيعى ومفهوم، ولكنه أيضا رد فعل مرتبط بفكرة معينة عن الأمن وعن القوة لم تعد سليمة ولا هى معبرة عما يحتاجه البلد.
الأمن والنظام شىء، والبطش والعنف شىء مختلف تماما. ولو كان الانفلات الأمنى مجرد تعبير عن غياب الجنود أو نقص العتاد أو ضعف الأوامر، لكان الأمر هينا ومتوقفا فعلا على قيادة تملك مقومات فرض الأمن بالقوة المجردة، ولكان الضبط والربط كافيين لإعادة الانضباط للشارع المصرى. ولكن الواقع مختلف تماما، حيث يغيب الأمن لأن القانون غائب، ويفتقد الناس الأمان لأن جهاز الشرطة لم يجد لنفسه موقعا سليما ومتوازنا فى أعقاب الثورة، والفوضى سائدة لأن هناك فراغا شديدا فى الحكم وانقساما أشد فى المجتمع. بمعنى آخر، نحن نفتقد الأمن والنظام ليس لغياب حكم قوى ولا رئيس حازم، ولكن لأننا فى قلب أزمة سياسية تعطل التوافق وتؤجل تطبيق الحلول المعروفة للجميع. نحن نعيش فى فوضى لأن الحكومة مشلولة، والبرلمان غير فعال، والجمعية التأسيسية لم تتأسس، والشرطة عازفة عن القيام بدورها، والاستثمار يترقب، ومسئولية إدارة البلد تائهة.
لذلك فإن مصر بحاجة بالفعل لرئيس قوى ولحكومة قوية، ولكن دعونا نعيد تعريف القوة المطلوبة.
القوة أولا، هى القدرة على تجميع الرأى العام والجماهير التى أصابها اليأس والإحباط وراء أفكار وأهداف جامعة، والقوى هو من يقف الناس وراءه وليس من يستخدم أجهزة الدولة القمعية لتخويفهم. كل الزعماء العظام الذين قادوا بلادهم فى أعقاب ثورات أو فترات اضطراب كانت عظمتهم فى جمع الناس وفى قيادتهم وتوحيدهم وراء مشروع بناء الوطن. ولذلك فالرئيس القوى هو الرئيس القادر على قيادة الرأى العام لا مجرد رئاسة الدولة، وعلى حشد المجتمع وراء برنامجه، وعلى كسب ثقة الناس لا خوفهم، وعلى التجميع لا التفريق.
والقوة ثانيا، هى التمكن من إعادة تأهيل قوى المجتمع لكى تعمل جميعا للصالح العام. لا يمكن إعادة بناء المجتمع إذا استمر رجال الشرطة فى حالة عداوة مع الناس، ورجال الأعمال منظور إليهم على أنهم لصوص، والعاملون فى الجهاز الإدارى للدولة مذنبون إلى أن تثبت براءتهم. الرئيس القادم سيكون قويا لو استطاع أن يجد الخط الفاصل بين من كان فاسدا وبين من يلزم استيعابه والترحيب به فى مجتمع جديد يسعى لبناء نفسه ويحتاج لطاقات وإمكانات وحماس أعضائه ممن لم يشاركوا لا فى جرائم ولا فى فساد. وهذه القدرة على إعادة تأهيل قوى المجتمع أيضا من سمات زعماء التحولات الاجتماعية الناجحة، وهى لذلك من مظاهر القوة التى ينبغى أن نبحث عنها فى مرشحى الرئاسة. الرئيس القادم يجب أن تكون لديه القوة على تعبئة كل طاقات المجتمع وحشدها نحو إعادة بناء الوطن ومؤسساته، وهذه مهمة لن تتحقق إلا بإنهاء حالة التخوين والإقصاء السائدة على الساحة العامة.
ثم إن القوة من منظور ثالث هى تقديم القانون والعدالة على تحقيق الأمن فى الشارع والانضباط فى الميادين. الجريمة عكسها ليس الضبط والربط وإنما القانون، والفوضى عكسها ليس النظام وإنما العدالة، وغياب الانضباط عكسه ليس ترويع المجتمع وإنما التزام أطرافه بحل خلافاتهم فى ساحات القضاء. الأمن والقوة الجبرية ليسا ما يقضى على الفوضى والجريمة، بل نظام قانونى عادل، وقضاء مستقل، واقتناع الناس بأن القانون والقضاء هما السبيلان الوحيدان للأمن والنظام. وهنا تكون قوة الرئيس ليس فى قيادته لقوات الأمن وفرض النظام بالعنف وحده، بل فى حشد الناس والرأى العام وراء دولة القانون.
وأخيرا فإن القوة التى أتمناها فى الرئيس القادم هى القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة والمطلوبة لإعادة بناء الاقتصاد، وكذلك القدرة على اقناع الجماهير بها. أيا من كان الرئيس القادم فسوف يكون أمامه اقتصاد يعانى من عجز بالغ فى الموازنة ومن انخفاض فى موارد الدولة وموارد تتسرب فى دعم لا يصل لمستحقيه، وبالتالى سوف يكون عليه إعادة توجيه انفاق الدولة على نحو قد يكون مؤلما لفترة قادمة. هذه القرارات لا يمكن أن يتم فرضها بقوة الشرطة وحدها مهما كانت أعدادها وتسليحها، وإنما لن يفرضها إلا رئيس قادر على اقناع الناس بأن قراراته عادلة وسليمة، وأن احتمالها ممكن وضرورى، وأنها تحقق الصالح العام لا مصلحة القلة.
نعم نحن بحاجة إلى رئيس قوى، وبحاجة إلى الأمن والانضباط. ولكن القوة التى تحتاجها مصر اليوم هى تلك التى تقنع الناس وتجمعهم وتوحدهم وتكسب ثقتهم. نحن لسنا فى حاجة إلى «فتوة» يفرض القانون ولو كان ظالما، ويحقق الأمن ولو على حساب الحقوق، ويقضى على الفوضى ولكن على الحرية معها. نحن بحاجة إلى رئيس يجمع الناس حوله ويقودهم قبل أن «يكبس على أنفاسهم»، ولو فعل ذلك لكان قويا بحق.
أما كيف يفعل الرئيس القادم كل ذلك فى غياب نصوص دستورية تحدد مهامه وصلاحياته، فتلك معضلة أخرى، ولغز نعيش معه منذ استفتاء العام الماضى. ولكن فى غياب تحديد واضح لهذه الصلاحيات، فإن الرئيس القادم لا يمكنه إعادة الأمن والنظام بالاعتماد على الشرطة والأمن المركزى وقوات مكافحة الشغب، بل يجب أن تكون أسلحته هى اقتناع الناس به وثقتهم فى نزاهته وحسن تقديره وتقبلهم بأن يسيروا معه فى طريق إعادة بناء الوطن