التقيت منذ بضعة أيام بعدد من زملاء دراسة العلوم السياسية بجامعة برلين وهم من المتخصصين فى قضايا التحول الديمقراطى، تحديداً فى دول أوروبا الشرقية والوسطى. حملت لهم هموم الحالة المصرية كما أراها وعبرت عن قلقى الشديد من سياسة لا تحقق الصالح العام وكثيرة التقلبات، ومن قوى سياسية تجيد الصراع والتشبث بالمصالح الضيقة ولا تتوافق، ومن نقاش عام صخبه مرتبط بالأساس باتهامات بالخيانة والتلون ومحاولات إقصاء متبادلة على نحو يذهب بحرية الرأى ويحول دون ممارسة النقد الذاتى ويحد فعلياً من القدرة على التمسك بالقناعات المبدئية فى ظل ظروف دائمة التغير.
زملائى، وأحدهم كان من الذين شاركوا فى صناعة التحول الديمقراطى فى بولندا، استمعوا لما سقت واستفسروا عن بعض الأمور وخاضوا معاً فى ما ظننته بداية حوار لطمأنة صديق ثم تثبت من واقعية وأهمية ما حمله من عبر. عبرة أولى مفادها أن مراحل التغيير المجتمعى والتحول الديمقراطى لا تسمح لمن يعيشون أثناءها برؤية الضوء فى نهاية النفق، بمعنى أن الغموض والقلق هما سيدا الشعور الشخصى والجماعى لدى أغلبية المواطنات والمواطنين. والسبب هو كثرة التقلبات وسرعتها والطابع الجديد لبعضها (على المجتمع المدنى). وكان تعبير زميلى البولندى هو أن مواطنيه أمضوا خمس سنوات كاملة منذ بداية التحول إلى أن بدأوا يرون صورة المجتمع والدولة الجديدة والسياسة الديمقراطية.
عبرة ثانية تمثلت فى حدة صراعات القوى السياسية وكونها استمرت لفترة تطغى على السياسة تهمش التوافق، والسبب هنا هو غياب الممارسة التعددية طويلاً، وسيطرة إما النزوع نحو الهيمنة لدى البعض أو الخوف من هيمنة مضادة لدى البعض الآخر، وهشاشة قواعد الممارسة الديمقراطية إن الدستورية أو القانونية أو السياسية، الزميل البولندى وزميل ألمانى درس تجارب جمهورية التشيك والمجر أكدا أن الدولتين مرتا بإخفاقات كثيرة إلى أن وضع دستور جديد وقوانين للانتخابات والحريات السياسية مقبولة من الأغلبية ومن ثم استقرت.
عبرة ثالثة كانت أن قسوة النقاش العام وممارسة العنف اللفظى، وأحياناً المادى، ضد الخصوم وحفلات التخوين والتهييج الإعلامية جميعها ظواهر «طبيعية» فى مراحل التغيير والتحول. بعد عقود من كبت الحريات والمنافسة يرتب الانفتاح السياسى الكثير من الإيجابيات وفى مقدمتها الاهتمام العام بالسياسة واعتياد المواطن على وجهات نظر مختلفة، ويتسبب أيضاً فى سلبيات متمثلة فى غياب دور منظومات القيم الأخلاقية والدينية وقيم السياسة النزيهة فى ضبط إيقاع النقاش العام والتمكين لثقافة الاحترام المتبادل.
وحين صارحتهم بأن من أكثر ما يقلقنى هو ظاهرة «الشتامين» بين بعض الأكاديميين وأصحاب العلم وممارسى الدعوة للدين ومكارم الأخلاق، كان الرد ولما أتعجب وبعض من روج لليمين العنصرى والأفكار المتطرفة فى أوروبا الشرقية والوسطى كانوا أساتذة جامعات ورجال دين.
عبرة رابعة ارتبطت بحقيقة أن التحدى الأكبر أمام المجتمعات الساعية للتحول الديمقراطى بعد عقود استبداد هو القضاء على منظومة الدولة القمعية البوليسية التى لا تتأثر سريعاً لا بتحولات السياسة ولا بنتائج انتخابات وتظل تقاوم التغيير وتسعى للنفاذ للسياسة عبر وجوه جديدة وأحياناً عبر وجوه قديمة. وإشارات الزملاء هنا كانت لرومانيا وبلغاريا وطبعاً الحالة الروسية. وسبيل النجاح الوحيد لمواجهة هجمة القديم هو اصطفاف ديمقراطى جاد واستعداد القوى الديمقراطية لتجاوز شكوكها والتعاون لهزيمة أخطبوط الدولة القمعية البوليسية.
دعونا إذن لا نسقط فى مصيدة اليأس ولا نخلط بين التحديات الكبرى وتلك الفرعية. مصر ستنجح فى إدارة التغيير والتحول الديمقراطى.
بقلم : عمرو حمزاوى – الوطن