علي الرغم من أن مصر قد أنجبت فى تاريخها الحديث عشرات وعشرات من العباقرة فى دولة التلاوة القرآنية، فإن للأفذاذ منهم خصوصيتهم وتفردهم فى إطار الانتماء للمنظومة الشاملة. لكل بصمته التى تجذب الأسماع وتأسر القلوب.
للشيخ مصطفى إسماعيل مكانه ومكانته، وقد كان واحداً من المتربعين على القمة زهاء ثلث قرن، منذ منتصف الأربعينيات إلى قرب نهاية السبعينيات،
ورسخ مع أبناء جيله والأجيال اللاحقة حقيقة أن مصر هى المنبع الذى لا ينضب لمن يحملون راية القرآن الكريم وينشرون نوره، ويمثلون سفراء الجمال والجلال فى أرجاء العالم الإسلامى كافة.
الفلاح الأصيل
ولد الشيخ مصطفى إسماعيل سنة 1905، فى قرية «ميت غزال» التابعة لمدينة طنطا، عاصمة مديرية الغربية. أسرته غنية بالتقوى والإيمان، لا يختلف أبناؤها من الفلاحين البسطاء عن ملايين المصريين الذين يجدون المتعة الأسمى فى العمل الشريف والعبادة.
التحق الطفل مصطفى بكُتاب القرية، وظهرت موهبته مبكراً عندما زار طنطا بصحبة جده ورفع الأذان فى مسجدها الجامع، فتعلق سامعوه بحلاوة صوته العذب النقى، وسرعان ما اكتملت موهبته الفطرية بالأدوات الضرورية اللازمة، أتم حفظ القرآن الكريم، ودرس علم القراءات فى المسجد الأحمدى بطنطا، وصولاً إلى احتراف القراءة فى الدائرة المحلية المحيطة بقريته.
تقترن بداية شهرة الشيخ مصطفى خارج الإقليم بمشاركته فى القراءة عند وفاة حسين باشا القصرى، أحد كبار وجهاء طنطا، وهى المناسبة التى شارك فيها آلاف المعزين الذين وفدوا من شمال مصر وجنوبها، وعند وفاة سعد زغلول فى أغسطس سنة 1927، تكررت تلاوة الشيخ الشاب فى وداع الزعيم الجليل، وكانت حلاوة الخشوع فى المناسبة الحزينة مدخلاً لمزيد من الصعود والتألق.
ارتبط الشيخ عبر رحلة حياته الطويلة بملوك ورؤساء وزعماء، فكان من المشاركين فى وداع الملك فؤاد سنة 1936، أما الملك فاروق فقد عُرف عنه الإعجاب غير المحدود بالشيخ الذى كان يحيى الليالى الرمضانية فى القصور الملكية منذ سنة 1943، ولأن الإذاعة المصرية كانت تنقل الاحتفالات على الهواء مباشرة، فقد ذاع صيت الشيخ مصطفى إسماعيل وعمت شهرته.
رحلات وأوسمة
مثلما حظى مصطفى إسماعيل بتقدير وإعجاب ورعاية الملك فاروق، فقد كرمه الرئيس جمال عبدالناصر بعد ثورة يوليو، ومنحه وسام الجمهورية سنة 1965، فكان أول قارئ للقرآن الكريم ينال هذا التقدير الرسمى الرفيع، وامتد الإعجاب بالشيخ فى عصر الرئيس السادات، والمعروف أنه ذهب معه فى رحلة القدس سنة 1977، وقرأ ما تيسر له فى المسجد الأقصى.
تختلف أنظمة الحكم من الملكية إلى الجمهورية، ومن التوجه الناصرى إلى الخط الساداتى، ولا يبقى صامداً راسخاً إلا الإجماع على الإشادة بعبقرية وتفرد الشيخ مصطفى إسماعيل، صاحب المدرسة الفريدة فى القراءة. وليس أدل على مكانته والإضافة التى قدمها، من شهادة الشيخ محمد رفعت عنه. أما الموسيقار محمد عبدالوهاب فقد أفاض فى الحديث عن جماليات أدائه التى تنم عن روعة الإحساس والقدرة الفائقة على التلوين والتعبير.
حقق الشيخ مصطفى شهرة عالمية تجاوزت مصر إلى العالم العربى ومختلف البلدان الإسلامية، وحصل فى رحلاته لإحياء الليالى القرآنية على عشرات من الأوسمة والنياشين، فضلاً عن الجائزة الكبرى التى تتمثل فى محبة الشعوب، وعلى الرغم من كل ما حققه الرجل من نجاح غير مسبوق، فقد ظل مخلصاً لقريته التى ولد فيها ونشأ فى دروبها وتعلم فى كُتابها، ما لم يكن على سفر أو ارتباط رسمى مُلح، فإن يوم الخميس كان مخصصاً للقراءة فى «ميت غزال»، وكان ارتباط الشيخ مصطفى بها مضرب المثل، وبمثابة الامتداد المنطقى لما عُرف عنه من رقة وتواضع وبساطة، فلا شىء ينأى به عن الإخلاص لمسقط رأسه، مكاناً وبشراً.
أوصى الشيخ الجليل أن يُدفن فى قريته، وعندما حان الأجل المحتوم فى عام 1978، عاد ليحتضن التراب الذى أحبه وانتمى إليه وتشرب بقيم ناسه. بعد أكثر من ثلث قرن على الرحيل، يبقى صوت مصطفى إسماعيل علامة مضيئة فى تاريخ دولة التلاوة، ويكتسب فى كل يوم وساعة مزيداً من المعجبين المولعين بحلاوة الخشوع التى يتميز بها صوته الساحر، وينشر من خلاله آيات السكينة والصفاء.