هذه رسالة موجعة تحرجت من نشرها، وعذبتنى فكرة حجبها، فهى تتحدث عن معاناة 239 معتقلا سياسيا فى المملكة السعودية. أما وجه الحرج فيتمثل فى أننى لا أعرف هوية هؤلاء الأشخاص أو حقيقة التهم الموجهة إليهم، أو طبيعة «الجهاد» الذى اشتركوا فيه أو فكروا فى دعمه، أما ما عذبنى فى الموضوع فهو أن الرسالة التى تضمنت أسماء المعتقلين الـ239 وأسماء أهاليهم الذين تولوا توجيهها (عددهم 511 من الأمهات والآباء والشقيقات والبنات والأبناء) شكت من الظلم الذى وقع على الجميع، وأرادت أن ترفع عاليا صوت المظلومين علَّ أحدا يحس بأحزانهم ويفعل شيئا لأجل التضامن معهم أو إغاثتهم.
ليس عندى أى دفاع عن أفعال أولئك المعتقلين أو أفكارهم. ولكنى أدافع عن إنسانيتهم ومظلوميتهم، وذلك وحده ما دفعنى إلى نشر خلاصة للرسالة التى تلقيتها فى بريدى الإلكترونى، وقد اقتطفت منها الفقرات التالية التى تدخلت فى صياغتها لداعى الاختصار:
نحن نساء بلاد الحرمين، أمهات وزوجات وبنات المعتقلين فى السجون السياسية بالمملكة نوجه هذا الخطاب بعدما حل بنا ظلم عظيم وسدت أمامنا السبل وأغلقت فى وجهنا كل الأبواب، إذ تعرض أبناؤنا لاعتقالات تعسفية، لمجرد أن منهم من سخر نفسه للجهاد أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، أو جمع صدقة لمحتاج وأسير.
فى البداية وقبل حوالى عشر سنوات، كان يقبض على الرجل الذى يجاهد فى الخارج، ثم صاروا يقبضون على كل من له علاقة بمن يجاهد، ولو أن يكون زميله فى العمل، ثم صاروا يعتقلون كثيرا ممن ليس له تهمة، إلا تهما سخيفة نستحى من ذكرها، كنية الجهاد، ونية الدعم للجهاد، أو حتى اعتقال تحفظى.
ارتفعت أعداد المعتقلين كثيرا، حتى إنك قد لا ترى بيتا إلا فى أهله معتقل أو قريب له، فصار العدد قرابة الثلاثين ألفا، فمن يدخل السجن لا يدرى متى يخرج، لا محاكمة تجرى له ولا شرع يعرض عليه، وإن حوكم وانقضت محكوميته فلا يخرج، وهذا حال الأغلب من المعتقلين السياسيين. والأدهى والأمر أن طريقة الاعتقال هى باختطاف الشخص بدون سابق إنذار له أو لأهله، فإذا اختفى إنسان صالح متدين فى السعودية فالأصل أنه معتقل.
إذا دخل الشخص فى غياهب السجون، فإن أخباره تنقطع ويجهل حاله لأشهر تمتد فى بعضها لما فوق السنة، ويبدأون فى تعذيبه لأجل الاعتراف بما لم يقترب، أو بما عمل، فالتعذيب موجود وحاصل، وذلك بالضرب بالعصى، والتعليق، وبالشتم والقذف فى الأعراض، وبالتهديد بالعرض أيضا، وبالتجويع والتسهير، وغيرها من طرقهم الخبيثة، وهذا الشخص الأسير سواء اعترف أو لم يعترف حوكم أم لم يحاكم فإنه لا يكون بين الأحياء ولا بين الأموات، فى زنزانة بعيدة كل البعد عن الجو الخارجى، فلا يعلم أهو فى ليل أو نهار، صيف أم شتاء.
لقد صبرنا وصبرنا وتحملنا وتحملنا حتى تفجرت الدماء فى قلوبنا وتفتتت أكبادنا غيضا، فتجرعنا من الهوان علقمه ومن الذل أمرّه، ثم بدأنا نشكو ونطرق الأبواب التى يقال إنها مفتوحة وهى والله ليست بمفتوحة وإنما دونها ألف حاجب وعقبة، ورفعنا البرقيات، وبذلنا جاهنا، وبحثنا عن كل طريق، فذهبا للعلماء فمن نصرنا منهم سجنوه ووبخوه، ومن خاف تركوه ــ وكثير ما هم ــ بل إن بعض من تمسح بمسوح العلم والدين اتهمنا واتهم أسرانا بالغلط وبالخروج عن الطاعة، ونحن لا ندعى الكمال أو العصمة من الغلط، لكن حاكموا المخطئ وأفرجوا عن المظلوم، فتركناهم ولجأنا لله قبلهم وبعدهم.
حين بدأنا نتحرك سلميا بتجمعات نطالب فيها بحقوقنا، قوبلنا بالسجن والضرب حتى إننا نحن النساء اعتقلنا وحوربنا وأهينت كرامتنا، وتعرضنا للحبس والتحقيق دون وجود محارمنا والله المستعان.
فكنا نبذل كل ما نستطيع من أجل حل قضية أبنائنا المعتقلين فى سجون وزارة الداخلية، فمرارة أنك تعيش ولا تعلم متى يفرج عنه، لا يحس بها إلا قلب تفطر حبا وشوقا لحبيبه.
الرسالة تثير أكثر من نقطة جديرة بالملاحظة. فهى تعبر من ناحية عن جانب من حالة «الحراك» الذى تشهده المجتمعات العربية فى الوقت الراهن. فقد كسر الجميع حاجز الخوف، وما عادوا مستعدين للاكتفاء بالصمت وتجرع مرارة الظلم واختزانها. وساعدتهم ثورة الاتصال على رفع أصواتهم وتعميمها، الأمر الذى يشير إلى أن السكوت البادى على السطح يخفى تحته تفاعلات قوية ينبغى عدم تجاهلها. من ناحية ثانية، فإن الرسالة تشير إلى تنامى مؤشرات الضغوط الأمنية التى تضاعفت منذ أعلنت الإدارة الأمريكية قبل نحو عشرات سنوات عما سمى بالحرب على الإرهاب، وكان للسعودية نصيبها الأكبر من تلك الحرب بعدما تبين أن أغلب الذين اشتركوا فى أحداث سبتمبر الشهيرة كانوا من أبنائها. ولأجل تحسين صورتها فى العالم الخارجى مورست تلك الضغوط الأمر الذى كان من ضحاياه عدد غير قليل من الأبرياء.
الملاحظة الثالثة أن ذلك الحراك ليس مقصورا على المملكة العربية السعودية وحدها، ولكن له أصداؤه المكتومة فى عدة أقطار خليجية أخرى. خصوصا أن بعضها تحول إلى دول بوليسية يعانى فيها النشطاء والمثقفون مما يعانيه نظراؤهم فى السعودية.
الملاحظة الرابعة أنه إذا كانت انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة الحريات العامة باتت من الأمور الشائعة فى منطقة الخليج، إلا أنها أيضا تمثل الوجه المسكوت عليه فى الإعلام العربى الذى يمثل رأس المال الخليجى أحد أهم مصادر تمويله. لذلك أزعم أن الصورة الحقيقية للأوضاع فى تلك المنطقة ترى من خلال الفيس بوك وتويتر، فى حين أن الصورة المرئية فى وسائل الإعلام الأخرى أغلبها مصطنع ومغشوش. شكرا للذين مكنوا شعوبنا من أن تلتقط أنفاسها وتبث شكاواها وتنسج أحلامها فى الفضاء الإلكترونى.
بقلم : فهمى هويدى – الشروق