المعركة الطاحنة حول الدستور، التى تدور رحاها بين القوى السياسية الموصوفة بالإسلامية، وبين الاتجاهات المضادة المسماة بالمدنية، تكشف عن حقيقة رئيسية ينبغى الالتفات إليها والاهتمام بها، ونعنى بذلك غياب الثقة والسيطرة المزعجة لسوء الظن المتبادل، وهو منهج سيسود خلال السنوات القادمة، دون نظر إلى موضوع الاختلاف وتباين وجهات النظر.
يوقن الإسلاميون بمختلف اتجاهاتهم، لمزيج من الأسباب التاريخية والمعطيات الواقعية، ان الليبراليين واليساريين وغير الإسلاميين بشكل عام، يكرهون فكرة الشريعة ويتحفظون على تطبيق أحكامها، وأن كلامهم عن «المبادئ» دون «الأحكام» يمهد لتفريغ المجتمع الإسلامى من مضمونه، ومن المنطقى أن يصل العداء إلى الدرجة التى يتهمون فيها هؤلاء الخصوم السياسيين بالكفر والعداء للدين!.
فى المقابل، تتخوف القوى المدنية من هيمنة الإسلاميين المتنطعين المتشددين، الذين يعقدون العزم على العودة بالمجتمع المصرى إلى القرون الوسطى، ويتخذون فى المطالبة بتطبيق الشريعة، كما يفهمونها، مبرراً للحكم الدينى المستبد، حيث النظام القمعى الذى لا يُسأل فيه الحاكم عما يفعل، وينفرد رجال الدين، وهى تسمية لا يقرها الإسلام بشئون الدنيا التى يجهلون الكثير عنها.
لو أننا احتكمنا إلى العقل الرشيد، وخاصمنا التشنج وضيق الأفق، سوف نكتشف بلا عناء أن القطاع الأكبر والأقوى من الإسلاميين ليسوا بالسوء الذى يصوره معارضوهم، لكنهم يدفعون ثمن التنطع المتشنج الذى يصدر عن الأقلية المتشددة التى تثير المخاوف بالفتاوى الغرائبية وحملات التكفير والسباب والشتائم، فما الذى يحول دون سيطرة هذا الاتجاه فتتحول الحياة إلى ليل طويل كئيب؟!.
على الجانب الآخر، لا مصداقية للاتهامات التى تنهال بلا حساب على التيار المدنى باتجاهاته الليبرالية واليسارية، فلا أحد منهم يرفض الدين أو يعادى الإسلام، وثمة إجماع بينهم على احترام الشريعة الإسلامية وتطبيق مبادئها السامية.
لا مبرر إذن لتسليط الضوء علي قطاع ضئيل منهم، يتسم بالتشدد المضاد، ويتشدق بشعارات طفولية، وكأنه يراود الاستنساخ الميكانيكى لتجارب الغرب دون مراعاة لخصوصية الثقافة والتقاليد والقيم والأفكار فى المجتمع المصرى.
لا أحد يدرى على وجه اليقين كيف تنتهى أزمة صياغة الدستور، فقد تحول الأمر إلى صراع مفتوح لا تبدو له نهاية، لكن الوصول إلى المحطة الأخيرة لن يغير الكثير من تفاصيل المشهد، فالقانون الحاسم هو سوء الظن المتبادل بين الأطراف جميعاً، والغياب الكامل للثقة، ولهذا يتربص كل فريق بالآخر، ويأبى إلا أن يجد فى طعامه سماً زعافاً مميتاً، يبرر العداء غير المحدود: لأنه يكره الدين والشريعة ويدعو إلى الرذائل والموبقات، أو لأنه متعصب يكره الحياة ويسعى إلى إعادة إنتاج حكم طالبان، ويرفع رايات القاعدة والإرهاب الدموى.
العاديون من الناس، الذين يمثلون الأغلبية الساحقة، يقفون خارج ساحة الصراع، وهم يتهيأون الآن لمغادرة الملعب كله، بعد أن ملوا من المشاهدة والمتابعة العقيمة، حيث الجدل السفسطائى المرهق فى البرامج الفضائية وصفحات الصحف.
الكتلة الشعبية العريضة تريد الاستقرار بالمعنى الشامل للكلمة، وتراود الشروع فى بناء الدولة وفق أسس ومعايير واضحة، وعندئذ تلوح بوادر الأمل فى التعليم الجيد، وفرص العمل المتاحة، وعلاج زهيد التكاليف، وشوارع نظيفة، ومرور أكثر تنظيماً، ومساكن لمن لا يجد المأوى، ومقاومة للعشوائيات وأطفال الشوارع والتحرش والبلطجة.
المطلب الحقيقى للسواد الأعظم من الناس هو الأمن والأمان، ولقمة العيش والاستقرار، ووضوح الرؤية بلا ضبابية، فليت أن المتصارعين حول الدستور يلتقطون أنفاسهم، ويفكرون قليلاً فى الوطن الذى يترنح ويوشك أن يدخل فى النفق المظلم، حيث الإفلاس وثورة الجياع.
بقلم – مصطفى بيومى