ما الذى يجمع بين مارى أنطوانيت ومحمد إقبال وعبدالرحمن الشرقاوى ومؤسسة أخبار اليوم ونور الدمرداش وعيد الجهاد وطه حسين؟!. ملكة فرنسية متغطرسة، وشاعر إسلامى عبقرى، ومبدع مصرى ملتزم جاد، ودار صحفية عملاقة، ومخرج تليفزيونى رائد، وبدء نهضة وطنية فاصلة، وعميد الأدب العربى قاهر الظلام.
الميلاد فى نوفمبر، بين اليومين الثامن والرابع عشر، واختلاف جذرى يفضى إلى لوحة دالة نستخلص منها تجارب ثرية، والمرتكز المهم هو ضرورة ألا ننسى: من أحسن ويستحق الاحترام والتقدير، ومن أساء ويليق بنا من خلاله أن نتأمل ونتعظ.
الخبز والجاتوه
فى الثامن من نوفمبر سنة 1755، ولدت ملكة فرنسا مارى انطوانيت، التى أطاحت بها الثورة الفرنسية رافعة شعارات الحرية والإخاء والمساواة.
نظام ملكى ينعزل عن الواقع ولا يعرف شيئاً عن حقيقة أبعاده ومتطلباته وهمومه، ومن هنا جاء تعليق مارى انطوانيت الشهير على اشتعال الثورة الشعبية، فعندما سألت عن دوافع الثوار ومطالبهم، وقيل لها بأنهم يريدون الخبز، علقت فى ثقة ملكية مضحكة:
ـ ولماذا لا يأكلون الجاتوه؟!
بعد أكثر من مائتى عام على اعدامها، وبعد أن تبدلت الدنيا وقيمها وأفكارها، مازال بعض المنعزلين عن الواقع يعيشون فى أبراج عاجية، ويرون فى الجاتوه بديلاً منطقياً للخبز، ولا يتعلمون من التاريخ شيئاً، باستثناء أنهم لا يتعلمون من التاريخ!
مصر الآن تعيش فى مرحلة تاريخية حرجة، حافلة بالفقر والسخط الاحتجاجى والمطالب الفئوية، وفيها ملايين من الجياع الذين لا تتجاوز أحلامهم الحصول على الخبز والقليل من الطعام، وفيها بضعة آلاف يعتقدون ان الجاتوه هو البديل المشبع. كل الخطورة تنبع من هؤلاء المسرفين فى الترف وغياب الوعى، إلى الدرجة التى فقدوا فيها نعمة البصر والبصيرة أيضاً.
حديث الروح
مما يذكر بكل الخير لكوكب الشرق أم كلثوم، انها شدت بالكثير من القصائد الدينية التى تتسلل إلى الوجدان وتسكنه، والشاعر البنغالى الكبير محمد اقبال، الذي ولد فى التاسع من نوفمبر سنة 1877.
عرفه الملايين عندما غنت أم كلثوم من كلماته رائعتها «حديث الروح»، القصيدة التى ترجمها وصاغها شعراً المرحوم الشيخ الصاوى شعلان.
ولد اقبال نور محمد، المعروف باسم محمد اقبال فى مدينة سيالكوت بالبنغال الغربية، وكتب قصائده باللغتين البنغالية والأردية، قبل إعلان قيام دولة باكستان بأكثر من عشر سنوات، رحل الشاعر الإسلامى الكبير فى ابريل سنة 1938، وفى العام 1967 لحن الموسيقار العبقرى رياض السنباطى قصيدته المترجمة، التى لا تستعصى لغتها على العاديين من الناس، وتتغلغل أفكارها العميقة البسيطة إلى الوجدان فلا تبارحه.
ليت الذين يحرمون الغناء أن يفكروا فى الاستماع إلى شدو أم كلثوم بلحن السنباطى وكلمات إقبال، فعندئذ سيدركون عمليا قيمة الفن فى الارتقاء بالوجدان وازالة العكارة من القلوب.
المشكلة الحقيقية تكمن فى أن هؤلاء المتنطعين من أعداء الحياة لا يسمعون، وإذا استمعوا لا يفهوم ولا يفقهون!
شرف الكلمة
فى العاشر من نوفمبر سنة 1920، ولد الشاعر والروائى والقصصى والكاتب المسرحى والمفكر الإسلامى والصحفى الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، وفى اليوم نفسه من عام 1987 رحل عن دنيانا.
بين يومى الميلاد والموت، أضاف الشرقاوى كثيراً من اللبنات إلى صرح الثقافة المصرية، فهو شاعر مجدد، وروائى شجاع، ورائد من رواد المسرح الشعرى، ومفكر إسلامى تقدمى مستنير، وصحفى يؤمن برسالة المهنة وشرف الكلمة، فلا يتنازل ولا يساوم، ولا يعرف المهادنة والتخاذل.
كان عبدالرحمن الشرقاوى فلاحاً أصيلا معتزا بريفيته، وما نشأ عليه من مبادئ وقيم، وإذا كانت المباشرة مما يؤخذ عليه من بعض نقاده، فإن الذى لا جدال فيه هو اخلاصه وصدقه.
بكتاباته الأدبية والفكرية الجريئة، ألقى احجارا مؤثرة فى بحيرة راكدة، ورفع مشعلا ليقتحم به فى جسارة وبسالة دروب العتمة والظلام.
ربع قرن بعد رحيله، ومازالت مسرحيته عن الامام الحسين عليه السلام، ثائرا وشهيدا، أسيرة الكتاب المطبوع، فلا تعرض وكأنها مسيئة، وهى فى جوهرها دفاع مجيد عن الرسالة الإسلامية السمحة، وتجسيد اخاذ لبطولة الإمام.
ربع قرن يمضى على رحيله، ومازال الشرقاوى حياً فى قلوب الملايين من محبيه ومقدرى فضله، ولا يملكون فى يوم ميلاده وغيابه إلا الترحم عليه والتعهد بالسير على طريقه، طريق المبادئ التى تنتصر للإنسان وتمجده، وتحارب كل أشكال التطرف والإرهاب والقهر.
صحافة جديدة
فى الحادى عشر من نوفمبر سنة 1944، صدر العدد الأول من جريدة «أخبار اليوم» التى أسسها الصحفيان اللامعان الشقيقان على ومصطفى أمين، فكانت ميلاداً لمرحلة جديدة فى تاريخ الصحافة المصرية، وبداية لتطور مهنى لا ينكره ألد أعداء التوأم، وتحررا من غلبة الشكل التقليدى المهيمن، حيث الانتصار للرأى والرؤية من ناحية والتمسك بأهمية الشكل والإخراج من ناحية أخرى.
مدارس صحفية مصرية متجاورة متنافرة متعارضة، لكن الحصيلة النهائية تصب فى خانة التقدم والإضافة.
ومثلما كانت «الأهرام» و«دار الهلال» و«روز اليوسف» مدارس شامخة لها خصوصيتها وتفردها وبصمتها، جاءت «اخبار اليوم» بما يجعل منها مدرسة ذات شأن، ذلك أن اللغة قد ازدادت تحرراً وسلاسة، وتغير أسلوب المعالجة إلى ما يقترب من المزاج الشعبى.
عبر تاريخها الطويل العريق، قدمت «أخبار اليوم» كوكبة من ألمع الصحفيين الذين أثروا المهنة وأضفوا عليها بريقا، والخلاف السياسى والفكرى مع بعضهم لا يحول دون الاعتراف بالدور المهم الذى قاموا به، أما الذين لا يرون فى خصومهم والمختلفين معهم ميزة أو فضلا يذكر، فهم أسرى للذات المتضخمة وثيقة الصلة بالتطرف والإرهاب.
من الصعوبة بمكان أن تتم الإحاطة بكل أو معظم الأسماء التى شيدت صرحا شامخا اسمه «أخبار اليوم»، ولأنه لا يوجد خلاف على المؤسسين الموهوبين على ومصطفى أمين، فلا أقل من ازجاء التحية اليهما فى عيد ميلاد الصحيفة التى شيداها بالحلم والعرق، ودعماها فاقترنت بهما كما اقترنا بها.
ملك الفيديو
فى الثانى عشر من نوفمبر سنة 1930، ولد الممثل والمخرج التليفزيونى الكبير نور الدمرداش، أحد الرواد الذين بنى التليفزيون المصرى وولد عملاقا على أكتافهم وبفضل جهودهم، وقدم من المسلسلات وتمثيليات السهرة الناجحة، ما أهله لأن يحمل لقب «ملك الفيديو».
حصل نور الدمرداش على بكالوريوس كلية التجارة فى العام 1955، وفى العام الثانى نال دبلوم المعهد العالى للفنون المسرحية، وكان نور قد ظهر قبل تخرجه فى العديد من الأدوار السينمائية المتوسطة، حيث برع فى تجسيد شخصية الشاب الأقرب إلى الاستهتار، غريم البطل، الشرير الصانع للمكائد والمؤامرات، ومن الذى ينسى الألاعيب التى قام بها للإيقاع بعبدالحليم حافظ فى فيلم «شارع الحب»؟!
ولعل الدور الأشهر الذى قام به نور الدمرداش، بعد أن تجاوز مرحلة الشباب المبكر، هو شخصية موظف البنك التقليدى، المولع بالطعام، فى فيلم «صغيرة على الحب»، الذى أخرجه حسام الدين مصطفى سنة 1967، وكان الأداء الكوميدى لنور الدمرداش ناجحا ناضجا يستدعى الإعجاب.
فى رحلته مع الشاشة الصغيرة، وفى ظل امكانات محدودة وأجهزة بدائية، قدم المخرج الكبير عشرات الأعمال الناجحة، كما انه قدم للسينما مجموعة من الأفلام، أشهرها «ثمن الحرية» سنة 1964، و« الدخيل» سنة 1967.
عاش نور الدمرداش حياة زوجية مستقرة مع الفنانة الكبيرة كريمة مختار، وعرف عنه عشقه المتطرف لنادى الزمالك. وجاء موته فى السابع من فبراير سنة 1992 ليصيب الملايين من محبيه بالحزن والأسى.. رحمه الله.
عيد الجهاد
بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وتم الإعلان عن الهدنة، كانت مصر تتهيأ للتوافق مع متغيرات العالم الجديد، فلم يعد ممكنا ان تستمر الأوضاع على ما كانت عليه.
فى الثالث عشر من نوفمبر سنة 1918، توجه سعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى لمقابلة المندوب السامى البريطانى، مطالبين بالمشاركة فى مؤتمر الصلح، وهو ما يتيح للمصريين ان يعرفوا طريقهم ويتخلصوا من التبعية غير المجدية للامبراطورية العثمانية المريضة المهزومة، وأن يتخلوا عن قهر الحماية الجائرة التى فرضت عليهم من منطلق انهم رعايا فى ولاية تابعة «ورقيا» و«نظريا» للدولة الأم التى لم يعد لها حول ولا قوة.
كان عيد الجهاد الوطنى، الذى حظى بمكانة سامية حتى قيام ثورة 23 يوليو، تخليدا لليوم الذى يؤرخ به للنهوض من أجل الاستقلال، وهو اليوم الذى كان بمثابة الشرارة الأولى للثورة الشعبية العظيمة سنة 1919.
على كثرة الدروس المستخلصة من عيد الجهاد، فإن درسا واحداً يبدو الاحتياج قائماً إلى التأكيد عليه فى المرحلة التى نعيشها، ذلك أن زمن البديهيات يتراجع بمعرفة عتاة الظلاميين الجهلاء ممن يرفعون الشعارات الدينية المتطرفة، ويتخذون منها أداة لنفى الاستقلال الوطنى والمطالبة بالعودة إلى عصور التبعية والانحطاط.
سارق النار
ليس مثل الدكتور طه حسين، المولود فى الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889، فى التعبير عن عبقرية الشخصية المصرية عندما تواجه التحديات والعراقيل، فإذا بها تشهر سلاح الإرادة لتقاوم وتنتصر وتقهر المستحيل.
بيئة فقيرة، وعاهة مبكرة، ومناخ فكرى ردىء مسكون بالتخلف، لكن قاهر الظلام يتجاوز ذلك كله، ويراود الإمساك بمشعل المعرفة، وينهض بعطائه غير المسبوق رمزا لمصر الجديدة، التى تتطلع إلى اللحاق بركاب العصر.
فى مرثيته البديعة لعميد الأدب العربى، كتب الشاعر الكبير نزار قبانى: «ايها الأزهرى يا سارق النار»، وياله من تعبير يبلور ويكثف رحلة الرائد العظيم، فالطموح بلا حدود، والحلم بلا آفاق، والإصرار لاضفاف له.
عاش عمره ثائرا يأبى الاستعانة بكل ما هو تقليدى اسن راكد، واستطاع مع أبناء جيله أن يحرك الثوابت ويزلزل الرضا بالجهل وقيمه المدمرة.
ما أعظم الاحتياج فى أيامنا هذه إلى مدرسة طه حسين والدروس التى تبثها: الحرية والعقلانية والمنهج العلمى، مواجهة الكهنوت ومن يدعون الوصاية على العقول والأرواح معا. وفى عيد ميلاده، لابد من التأمل طويلا فى التدهور الذى صرنا اليه، فها هى الأفكار الثقافية النبيلة تتدهور، وها هم خفافيش الظلام يحيلون النهار إلى ليل دامس.
المعركة مستمرة، والاستسلام ليس واردا، ولا أمل فى المستقبل الا باستعادة ما يرمز اليه طه حسين، قائد الكتيبة الباسلة التى دعت إلى وطن ترفرف فيه رايات العدل والحرية، ويحكمه فكر يعلى من قيم عصرية تنتصر لجلال الإنسان، ذلك الكائن العظيم الذى لا يعرف اليأس ولا يمل من التطلع إلى الأجمل والأنقى والأفضل.
خاص البورصة