بقلم : أيمن عبد الحفيظ
إذا كان المفكر الأمريكي وعالم اللغويات الشهير نعوم تشومسكي قد استحق عن جدارة لقب “الرجل الذى قال لا” لكل مايتعارض مع الحق والخير والجمال، فإن الدكتور المصري الشهير لرئاسته جمهورية مصر العربية الآن محمد مرسي لا يستحق أبدا هذا اللقب الذي يسعى ومن ورائه مؤيديه وحزبه وجماعته لأن يروج إلى قوله لا لزيادة الأعباء على المواطن المصري.. بأمارة إيه وتوقيعه مذيل عليها.
نعوم تشومسكي ، المثقف والحالم الثوري استحق هذا اللقب لأنه لا يفصل بين الكلمة والفعل، أما رئيسنا فالفصل بين الكلمة والفعل هو عنوان الجمهورية المصرية الثانية التي للأسف جاءت به بعد ثورة عظيمة لم تقم فقط لمنع التوريث أو لكسر وزارة الداخلية التي عاثت في الأرض فسادا، وإنما نادت بالأساس بالعيش والحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية ، فشوهها هو وحكومته ومريديه، لتتحول مصرنا التي حلمنا بها منذ أن نزل الشباب لينظف ميدان التحرير بعد 18 يوم من الاعتصام، أن تكون بلدا نظيفا عفيفا يتمتع باستقلال قرارها الوطني وحريات غير منقوصة وعدالة في توزيع ثمار النمو وتمكين الفقراء.
فإذا بها دولة بوليسية ميليشية تؤسس فيها الأحزاب على أساس ديني، دولة عنصرية تحابي هذا بسبب دينه وفكره وقربه من دوائر الحكم الجديدة وطاعته لأوامرها وتمنع عن ذلك الذي لا ينسجم في أفكاره ومنطلقاته معهم.. دولة لا كرامة فيها إلا لمواطنيها الشرفاء الذين يقولون نعم لتعديل الدستور ونعم للاعلان الدستوري ونعم للدستور الجديد، وقد تصل إلى نعم للقرارات ونعم أيضا للتراجع عنها، دولة تهين وتسحل وتتغاضى عن قتل معارضي سياساتها بدعوى الحفاظ على الشرعية، في حين أن المعارضين أنفسهم لم يكونوا قد نادوا باسقاطها بعد.
دولة ينفصل فيها القول اللين للرئاسة والحكومة عن الفعل على طول الخط، ليصبح الكذب عنوانها وعدم الشفافية منهجها، تعاني من مشكلة هيكلية في صناعة واصدار القرارات والقوانين، تغير اعلاناتها الدستورية كما تغير الأم ملابس طفلها الوليد ، ولا يخجل من يقودونها حاليا من إعداد الدستور، الذي هو أهم وثائقها على الاطلاق وعقدها الاجتماعي، دون توافق، بل والاسراع بالتصويت عليه في جنح الظلام قبل أن يظهر نور الصباح وتقول المحكمة كلمتها، رغم أن رأس الدولة أبطل قراراتها مقدما.. دولة العك القانوني والسياسي والاقتصادي.. فعلا نحن في زمن العك.
نظام تقوم فيه العلاقة بين قادتها على القسم بأغلظ الأيمان والراحة النفسية وأداء الصلاوات، والله أنا مسلم، .. كيف لا ونائب الرئيس ، وهو أحد الرموز السابقة لتيار استقلال القضاء، يؤكد أن الرئيس أقسم له أنه لن يستغل سلطة التسريع التي في يده إلا في صالح الشعب وفي أضيق الحدود، فإذا به يصدق على قوانين وتعديلات قوانين اقتصادية تحيل حياة المصريين إلى جحيم، بل ويحصنها أيضا بالاعلان الدستوري الأخير قبل أن يتراجع صاغرا، ليس لرفضه زيادة الأعباء على المواطنين وإنما لأنها صدرت دون مراعاة البعد الاجتماعي الذي غاب عن المشهد، باعتراف نائب الرئيس المستشار أحمد مكي في المؤتمر الصحفي الذي عقده أثناء موقعة الاتحادية التي لم يفصلها عن المؤتمر سوى سور القصر.
على مدار أسبوع كامل، طالعت سلسلة التعديلات القانونية والقوانين الجديدة التي أعدتها الحكومة، بناء على اتفاقات مسبقة قبلت بها الحكومة ومن ورائها الرئيس مع بعثة صندوق النقد الدولي، قبل أن يصدق عليها محمد مرسي ويصدرها بتاريخ سابق عدة أيام ليحصنها من الطعن عليها ضمنا، وفقا لسياسة لي الذراع التي اعتمدها في الحوار مع المعارضين، وتوضح مذكراتها الايضاحية أن عددا منها تعرض لتعديلات ومناقشات عدة، ولم تلبث الرئاسة أن تصدرها إلا وفوجئت برفضها مجتمعيا واكتشفت أنها ستكون بمثابة السيف الذي أعطته لخصومها السياسيين للاجهاز عليها، وأنها قد تكون ذريعة لرفض جموع الشعب الطيب الدستور الجديد الذي سيتم الاستفتاء عليه السبت القادم، خاصة أن الغلابة هم وقود الأكثرية الحاكمة الآن ،ليعد إعلان مثل هذه القرارات الآن انتحارا سياسيا بمعنى الكلمة.. إشي غباء يا ناس.
ولكن.. هل تصدق التوقعات الذاهبة إلى أن الغاء تعديلات قوانين الضرائب لا تعدو تأجيلا مؤقتا لحين تمرير الاستفتاء أو لحين انتهاء الانتخابات البرلمانية القادمة.. والاجابة التي أراها واضحة أمامي هي نعم.. وإلا.
نعم لأن الحكومة تنتظر بفارغ الصبر موافقة مجلس إدارة صندوق “النكد” الدولي يوم 19 ديسمبر الجاري على طلب اقتراض 4.8 مليار دولار، وعليها أن تقدم السبت أولا، باجراءات اصلاحية مالية وهيكلية صعبة وهامة في آن، وهي الاجراءات التي تقول الحكومة ويؤكد الصندوق أنها نابعة من برنامج مصري وطني لا املاءات فيه ولامشروطية، فإذا كان هذا هو البرنامج الوطني فكيف تكون إذا برامج الصندوق؟!.
ومهما كانت قساوة البرنامج الوطني “الديمقراطي “الذي يجب أن تنفذه مصر حتى تحصل على شهادة الغفران من صندوق النقد ودوائر التمويل والاستثمار العالمية، فهل التوقيت الحالي هو الأمثل لانفاذ مثل هذه القرارات في مجتمع يعاني 50% منه على الأقل من فقر مدقع، وتزيد فيه معدلات التضخم وتتذبذب فيه أسعار الفائدة بشكل حاد يمنع الشركات عن الاقتراض بغرض التوسع، ويحارب فيه النظام في الوقت نفسه من أجل تثبيت شرعيته ودعائم حكمه أمام موجة عاتية من المعارضة.
لا والله، فلو لم يسقط هذا النظام لجريرة ارتكبها فتهمة الغباء السياسي كفيلة بالاطاحة به واقتلاعه من جذوره.
ولكن.. ليس علينا إلا أن نلوم أنفسنا بعدما توهمنا أن التصويت للجماعة سيسقط النظام الذي ثارت عليه الجماهير أمام شفيق، فإذا بنا نفاجأ بنظام لا يراعي العدالة الاجتماعية ولا أنين الفقراء، ويعجز عن حماية مؤسسات الدولة، ويغض الطرف عن انتهاكات مريديه ومجاذيبه.. فعلا الرئيس محمد مرسي ليس الرجل الذي قال لا.. وإنما جماعته ولفترة مؤقتة.