وقفت طويلا أمام هذه الصورة للأم المكلومة على فلذة كبدها فى أحداث بورسعيد الدامية.. لا أدرى سبب توقفى أمامها طويلا.. فقد حاولت طوال العامين الماضيين، قدر استطاعتى، عدم اطالة النظر فى صور الشهداء وصرخات أمهاتهم وعويل آبائهم وصراخ أقاربهم ونحيب أصدقائهم.. فقط كنت أرنو إلى صورهم التى يحملها آباؤهم وأصدقاؤهم واحتسبهم عند الله شهداء.
لا أعلم سببا لعدم قدرتى على اطالة النظر فى هذه الصور، ربما لضعف فى تكوينى النفسى يجعلنى غير قادر على النظر فى هذه المشاهد، خاصة أننى ابتعدت منذ سنوات عن مشاهدة أفلام العنف واراقة الدماء، أو قد يكون خوفا من أن أدخل فى حالة من الاكتئاب الذى يسيطر على مشاعر المصريين منذ أن تبين لهم الخيط الأبيض من الأسود بعد مرور بضعة شهور فقط من قيام الثورة، كانت كفيلة بسقوط جميع الأقنعة التى ارتداها الكثيرون ممن كنت أعتقد فى نزاهتهم وحسهم الوطنى العالى وتقديمهم المصلحة العليا للبلاد على مصالحهم الضيقة، ولنا فى الأراجوزات الذين يحكمون الآن ومعارضيهم أيضا أسوة سيئة.
إلا أننى توصلت إلى السبب الحقيقى بعد أن ظللت أكثر من 20 دقيقة أحدق فى وجه هذه السيدة المكبوتة مشاعرها، خاصة عندما عدت إلى منزلى واحتضنت اياد وزياد.. يااااااااااااااااااااااه.
عرفت السبب أخيراً الذى كان يدفعنى للابتعاد عن مشاهد ضحايا العساكر طوال عام ونصف العام، سواء فى ماسبيرو أو محمد محمود أو مجلس الوزراء إلى آخره من قائمة جرائم لا يتسع المقام لذكرها، وتوجتها مذبحة بورسعيد التى دفعتنى مشاهدها الأولى لأن أترك التليفزيون سريعا وأهرول إلى الشارع أسير وحدى حوالى ساعتين لا أدرى ماذا حدث بالضبط، لأننى متأكد من وقوع كارثة مروعة لن تبقى ولن تذر، قبل أن أتوجه مع عدد من الأصدقاء إلى محطة مصر فى انتظار العائدين من بورسعيد، لأبقى حوالى 3 ساعات فى بهو محطة سكك حديد مصر، وكأنه قد تم تطويره لاستقبال العائدين أحياء من المذبحة، ورائحة الموت والغدر تزكم الأنوف وتنذر بمواجهة لا قبل للوطن بها تأكدت بعد عام من وقوعها.
هل كنت أخاف أن اعتاد مشاهد الأمهات الثكالى وأن تتيبس مشاعرى فى يوم من الأيام من جراء ارتفاع وتيرة العنف الذى لم نعتده فى الشارع المصري.. ربما، ولكن هذه السيدة التى تتصدر الصورة ومشاعرها التى حاولت كتمانها فعبرت وجناتها عن النار التى تكوى قلبها كيا، دفعتنى إلى الوقوف على السبب الحقيقى لتعمدى طوال الفترة الماضية الابتعاد عن مشاهد القتل التى يتعرض لها المصريون على أيدى أبناء وطنهم، سواء من الشرطة أو المدنيين أو الميليشيات أخيرا.
انه اليأس.. نعم اليأس من عدم القدرة على استعادة حقوق ضحايا الأحداث المؤسفة التى نتعرض لها بعد أهم ثورة قامت فى بلاد النيل.. فكيف ننظر إلى الشهداء ونحن غير قادرين على استعادة حقوقهم ومحاسبة المتسببين فى ايقاعهم، خاصة بعد الخروج الآمن الذى وفره النظام الحالى لأعضاء المجلس العسكري، وهو ما هلل له الجميع واعتبروه ضربة معلم بازاحة الجيش عن المشهد، وأحكام البراءة المتوالية التى نالها قيادات الداخلية وضباطها وكأن الشهداء والمصابين قد قتلوا وأصابوا أنفسهم وبأنفسهم.
كيف ننظر إلى الأمهات الثكالى والآباء الغلابة بعدما أصبح القصاص بعيد المنال كأهداف الثورة بالضبط، وماذا نقول لهم.. هل نصبرهم على قضاء الله وقدره أم نتعهد بالقصاص الذى لن يأتى طالما وقعنا فى كنف نظامين متتابعين متطابقين فى الآليات والأهداف، الأول يرتدى الملابس العسكرية وحافظ بكل قواه على مصالح نظام مات بكل ما يحويه من قمع وفساد، ونظام جديد يرتدى الملابس المدنية وذقون المشايخ ولا يتورع عن ايقاع ضحايا جدد من شركائه ومن سبقوه إلى الثورة، طالما نادوا بالحرية واعترضوا على السياسات المغلفة بالشرعية والشريعة.
حتى الحكم الوحيد الذى اعتبرناه بداية للقصاص العادل، تبين بعد يوم واحد من صدوره أنه طال عددا ممن قد يكونون أبرياء خاصة أنهم محالون لمحكمة الجنايات وعدد منهم من مشجعى الأهلى وتمكنوا من الافلات من المجزرة بشق الأنفس.
عذرا يا أمهات وآباء الشهداء وضحايا العنف المفرط الذى هو عنوان الحياة فى مصر الآن.. لا قصاص فى الدنيا حتى إشعار آخر نتطلع ألا يطول، فهذه البلاد لا عدل فيها حتى تحكمها الثورة ولا ثورة فيها حتى نجتث هذه الوجوه الضاحكة الراقصة على مذبح الشهداء.