بقلم : فهمى هويدى – الشروق
رغم أن زيارة الرئيس الإيرانى لمصر سلطت الضوء على العقبات التى تعترض تطبيع العلاقات مع طهران، فإنها أحدثت ثغرة فى الأفق المسدود.
(1)
قبل افتتاح مؤتمر القمة الإسلامية قام الرئيس أحمدى نجاد بزيارة للأزهر وشيخه، وبعد استقباله ومجاملته تعرض الرجل إلى محاكمة غير لائقة على الهواء. حيث انهالت عليه الأسئلة والاتهامات بعضها تعلق بموقف الشيعة من الصحابة والسيدة عائشة، والبعض الآخر ركز على محاولات نشر المذهب فى مجتمعات أهل السنة، وندد آخرون بمعاملة أهل السنة فى إيران، ومنهم من فتح ملف عرب «الأهواز» وما يتردد عن إساءة معاملتهم.. إلخ.
ربما كانت بعض تلك الأسئلة صحيحة وواجبة الطرح، لكنها وجهت إلى الرجل غير المناسب وبأسلوب غير مناسب، وفى المكان غير المناسب، ذلك أنه لم يكن من حسن التقدير أن تلقى كلها فى وجه الرجل، الذى لم يقل أحد إنه مرجع دين يتحدث فى شأن الصحابة وعملية التشييع. وإذا كانت هناك ملاحظات أو تحفظات على سياسة دولة الضيف فإنها تقال فى الاجتماعات والحوارات بين الطرفين، ولا تبث هكذا على الهواء. وهو موقف لا يعبر عن مودة أو عن رغبة فى التواصل ومد الجسور. وقد بدا أن إشهارها بتلك الطريقة ليس مقصودا به حل أى مشكلة وإنما الهدف منه هو تسجيل المواقف وإحراج الرجل والتعريض به وبدولته.
من جانبى استهجنت المشهد، وقلت ان الأسئلة التى طرحت لا تعبر فقط عن هواجس وقلق من جانب مؤسسة الأزهر أو حتى من جانب السلفيين. ولكنها تعبر أيضا عن موقف سياسى ينطلق من التقاطع وليس التوافق. وكان ذلك أوضح ما يكون فيما أثير حول عرب الأهواز (أغلبهم من الشيعة)، الذين إذا افترضنا أن لهم مشكلات مع حكومة طهران، فإن ذلك لا يبرر تدخل الأزهر فى الموضوع.
لاحقا اكتشفت أن الأمر كله كان فى حدود الأزهر، وأن زيارة الرئيس أحمدى نجاد لم تكن بالتنسيق مع رئاسة الجمهورية التى فوجئت بما حدث واستنكرته. وكان ذلك هو الرد الذى سمعته حين تحريت الأمر فى دوائر الرئاسة.
(2)
فى مطار القاهرة أوقف أحد ضباط الجوازات سفيرا إيرانيا انتدب للعمل فى اتحاد البرلمانات الإسلامية، وبعد ساعة وربع الساعة سمح له بالدخول للمشاركة مع رئيس الاتحاد الذى يحمل الجنسية التركية فى اجتماعات القمة. وكان تأخير دخول الدبلوماسى الإيرانى محملا برسالة سلبية. فهمت أنها ليست الأولى من نوعها ولكنها تكررت مع آخرين ممن لم يمنحوا تأشيرات الدخول إلى مصر أصلا.
قيل لى إن الضابط المختص فى المطار تصرف بصورة روتينية حين احتجز الدبلوماسى الإيرانى لنحو 75 دقيقة. لكننى شممت فى ذلك الموقف رائحة أخرى، تتمثل فى أن بعض الجهات الأمنية لا تزال على موقفها الذى التزمت به طيلة سنوات النظام القديم. أيد هذا الظن عندى أن ذلك لا يزال موقف إعلام نظام مبارك المستمر إلى الآن، إلى جانب أنه نفس الموقف السلبى الذى تتبناه بعض الجهات النافذة فى الأجهزة المصرية المعنية.
ما أثار دهشتى أننى حين نقلت ذلك الانطباع إلى بعض من أعرف من أهل القرار فإنهم أيدونى فيه بطريقة غير مباشرة، إلا أن أحدهم قال صراحة إن بصمات نظام مبارك والعناصر التى تربت على قيمه وثقافته لا تزال لها تأثيرها، وأنه من الصعب للغاية إزالة آثار مرحلة استمرت ثلاثين أو أربعين سنة خلال سنتين.
هذه الخلفية تستدعى سؤالا كبيرا هو: إلى أى مدى يختلف ذلك الموقف السلبى فى منطلقاته عن السياسة الخارجية المصرية إزاء إيران بعد الثورة؟
لست صاحب السؤال، لكن سمعته من دبلوماسى إيرانى مخضرم بعدما روى لى قصتين.
الأولى استعاد فيها مشهد زيارة وفد أمنى دبلوماسى زار طهران فى عهد الرئيس السابق لبحث القضايا العالقة بين البلدين. وكان البند الأهم فى جدول الأعمال هو تسليم المصريين المعتلقين فى إيران، الذين انتموا إلى تنظيم القاعدة وهربوا من أفغانستان بعد سقوط نظام طالبان. وتضمنت القائمة المصرية أسماء 30 شخصا رفض الإيرانيون تسليمهم لسببين، الأول أنهم قالوا صراحة إن من شأن تسليمهم أن تدخل إيران فى معركة مع القاعدة تفتح الباب لصراع سنِّى شيعى ليسوا مستعدين للدخول فيه. السبب الثانى أنهم يشكون فى أن مصر ستقوم بإعدامهم، وهم لا يريدون أن يكونوا السبب فى ذلك.
لم يتوصل الطرفان إلى نتيجة فى هذه النقطة. وانتهى الأمر بأن طلب الوفد الأمنى المصرى تسليم أربعة أشخاص فقط، قالوا إنهم ضالعون فى محاولة اغتيال الرئيس السابق أثناء ذهابه لحضور مؤتمر القمة الأفريقى فى أديس أبابا، إلا أن الطرف الإيرانى ــ ممثلا فى شخص محدثى ــ راجع المختصين فى طهران. فقالوا له إن هؤلاء الأشخاص ليسوا موجودين فى إيران. فما كان من الوفد المصرى إلا أن أنهى مهمته وعاد إلى القاهرة.
القصة الثانية حدثت بعد الثورة، حيث تلقت طهران رسالة رسمية من مصر تحدثت عن إمكانية مناقشة موضوع العلاقات بين البلدين بعد مراجعة الموقف الإيرانى من ثلاثة أمور:
الوضع القائم فى العراق، مساندة الحكومة السورية، حسم مسألة أمن الخليج، وفى تعليقه على القصتين قال محدثى إن نظام مبارك كان معنيا بالملف الأمنى بالدرجة الأولى، إلا أن الرسالة التى تلقتها طهران بعد الثورة دعت إلى تعرية السياسة الإيرانية قبل الحديث عن عودة العلاقات، الأمر الذى فهم منه المسئولون فى طهران أن مصر وضعت شروطا تعجيزية لا تفسر إلا بأنها بمثابة إغلاق لملف إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
(3)
أثناء انعقاد القمة الإسلامية حدث أمران مهمان فى السياق الذى نتحدث عنه. الأول تمثل فى عقد قمة ثلاثية ضمت إلى جانب الرئيس محمد مرسى الرئيسين التركى عبد الله جول والإيرانى أحمدى نجاد. وفى هذا الاجتماع حدثت تفاهمات حول أمور عدة، كان من بينهما مبادرة مصرية دعت إلى اجتماع ثمانى لبحث الملف السورى تشترك فيه إلى جانب الدول الثلاث ممثلون عن الحكومة السورية والمعارضة إلى جانب منطقة التعاون الإسلامى والجامعة العربية والمبعوث الدولى الأخضر الإبراهيمى، المبادرة جاءت تعبيرا عن تطوير الموقف المصرى يمهد للتعاون المشترك، ولا يثير النقاط الأخرى التى وردت فى الرسالة التى سبق إرسالها إلى طهران. كما أنها تعول على الحل السياسى للأزمة السورية بعد إعلان رئيس المجلس الوطنى السورى السيد معاذ الخطيب استعداده للحوار مع النظام.
تحفظ الرئيس التركى على فكرة الحواريين المعارضة ونظام دمشق، إلا أن التفاقم المصرى الإيرانى بدد الانطباعات السلبية السابقة وأحدث ثغرة فى أفق العلاقات الذى بدا مسدودا.
الأمر الثانى المهم أن السفيرة الأمريكية فى القاهرة السيدة آن باترسون طبت لقاء رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل، لأول مرة منذ تعيينه فى منصبه. وحين التقته فى مكتبه قالت له إن هناك معلومات تحدثت عن تعاون اقتصادى وشيك بين القاهرة وطهران، يشمل إيداع وديعة بعدة مليارات من الدولارات لحساب مصر فى البنك المركزى، كما يشمل إمداد مصر بما يعادل 5 ملايين طن من النفط شهريا، هذا بالإضافة على معاملات تجارية أخرى. وقد عقبت على ذلك قائلة بأن إيران خاضعة لعقوبات دولية أقرها مجلس الأمن. وهى تريد أن تنبه مصر إلى أنها إذا فتحت باب المعاملات الاقتصادية معها فإن ذلك قد يخضعها بدورها لتلك العقوبات، الأمر الذى من شأنه أن يعرضها إلى مزيد من الأزمات الاقتصادية التى قد تحملها بما لا تطيق.
(4)
رسالة السفيرة الأمريكية فضلا على أهمية مضمونها، فإنها تسلط الضوء على الدور الذى تقوم به الولايات المتحدة فى صياغة الموقف المصرى إزاء إيران. ذلك أن المتواتر لدى الدوائر وثيقة الصلة بالقرار السياسى. إن الإدارة الأمريكية رهنت موقفها الإيجابى من النظام الجديد فى مصر بتوافر ثلاثة شروط، هى: عدم المساس بمعاهدة السلام مع إسرائيل ــ مقاطعة إيران ــ إتاحة هامش من الديمقراطية يحسن الصورة ويحفظ استقرار الأوضاع فى مصر. ولا يحتاج المرء لأن يبذل أى جهد لكى يدرك أن النقطتين الأوليين تتفق فيهما المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ولا لكى يلاحظ أن مطلب الاستقرار المنشود يقاس بمقدار تأمينه لتلك المصالح. إذ ليس سرا أن واشنطن يهمها ذلك الاستقرار حتى وإن تم ذلك على حساب موت السياسة. كما يحدث فى بعض الأنظمة الميحطة بنا والتى تحظى بالرضا والمباركة الأمريكية.
قبل أكثر من ربع قرن وصف الدكتور جمال حمدان مصر وإيران وتركيا بأنها مثلث القوة فى المنطقة. الذى باكتمال أضلاعه تنهض وتستقر وتعاد صياغة موازين القوى فى الشرق الأوسط. وذلك هو الرأى الشائع فى أوساط الخبراء الاستراتيجيين ودارسى العلوم السياسية. ولكن لأن المثلث له هذه الخصوصية الفريدة فإن الأطراف ذات المصلحة فى الهيمنة على المنطقة وتركيعها كانت ومازالت حريصة على ألا يتحقق ذلك التكامل بين الأضلاع الثلاثة. وبات من المفارقات مثلا أن تغض مصر الطرف عن تناقضاتها مع إسرائيل وتطبع العلاقات معها فى حين يحرم عليها أن تمد أية جسور مع إيران، بما فى ذلك خط الطيران بين البلدين.
عند أهل النظر فإن إقامة العلاقات بين مصر وإيران تعد ضرورة استراتيجية، ومصلحة مشتركة للبلدين وللعالم العربى والأمة الإسلامية. ولا يعنى ذلك تجاهل أية خلافات أو أية ملفات عالقة بين البلدين. ولكنه يعنى تغليب المصالح العليا وإدارة الخلافات بين الطرفين بما لا يهدر تلك المصالح، وعلاقات إيران وتركيا نموذجية فى هذا الصدد. فالبلدان خاضا حربا شرسة بين الصفويين والعثمانيين، وأحدهما شيعى والآخر سنى، وبينهما تناقصات فى العراق وسوريا وأحدهما مخاصم لإسرائيل ومعاد للولايات المتحدة والثانى متصالح مع الاثنين. ومع ذلك فالجسور لا تزال ممتدة بين البلدين والتبادل التجارى بينهما يتجاوز عشرة مليارات دولار سنويا. وهما يسعيان جاهدين للتفاهم والتقارب وليس الخصام والتقاطع. حتى منطقة الخليج العربى التى لها أكثر من مشكلة حساسة مع إيران، نجدها تحتفظ بعلاقات دبلوماسية معها، علما بأن حجم التبادل التجارى بينها وبين الإمارات وحدها يقدر بحوالى 15 مليار دولار سنويا، ولدى السعودية سفيران إيرانيان وليس سفيرا واحدا، أحدهما فى الرياض لدى الدولة والثانى فى جدة لدى منظمة التعاون الإسلامى.
هكذا، فإن تطبيع العلاقات مع إيران حلال على الجميع، لكنه محرم على مصر. وذلك التحريم تفرضه الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض دول الإقليم فى الخارج. وتقف فى صفها القوى السلفية وبعض أصحاب المصلحة فى الداخل.
•••
خلاصة الكلام أن تطبيع العلاقات المصرية مع إيران ليس محكوما بالرغبة فقط، ولكنه محكوم بالقدرة أيضا، ويبدو أن تلك القدرة لم تتوافر بعد لمصر بعد الثورة، حتى الآن على الأقل، وهو ما يدعونى إلى القول بأن يوم عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين سيكون يوم إعلان تحرر القرار السياسى المصرى من الضغوط التى تكبله. ويوم وصول خبر الثورة إلى السياسة الخارجية المصرية.