بقلم: محمد العريان
بعد الضجة الإعلامية اللحظية التي بدت وكأنها منسقة في أوروبا والولايات المتحدة، لم يأخذ عرض انشاء منطقة حرة للتجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اهتماماً كبيراً من قبل وسائل الاعلام، هناك ثلاثة أسباب وراء ذلك، والأسباب الثلاثة تسلط الضوء علي قيود أوسع مفروضة علي السياسات الاقتصادية القومية الجيدة والتعاون المثمر عبر الحدود.
في أول الأمر كان هناك قدر كبير من الاهتمام العام حيث يتضمن هذا الاقتراح منطقتين اقتصاديتين بالعالم فضلا عما يتضمنه من آثار قومية واقليمية وعالمية، وبالرغم من إدراك ان مثل هذا الاتفاق من شأنه ان يغير طبيعة التجارة العالمية وشبكات الانتاج جذريا لم يستمر هذا الاهتمام سوي اسابيع قليلة.
يكمن السبب الاول في الشروط الاولية التي تحد من المكاسب المباشرة من ازدياد التجارة بينما يتسع نطاق التوتر والصراع، اتفاقيات التجارة الحرة التي تتعهد بفوائد أعظم هي تلك التي تربط الاقتصادات التي تتسم بتعريفة مرتفعة ومستويات منخفضة من التجارة وتفاوت طفيف في انماط الاستهلاك والانتاج، ولكن هذا ليس هو الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث ان متوسط مستوي التعريفة 3% فقط ويشكل الاتحاد الأوروبي بالفعل 20% تقريبا من واردات الولايات المتحدة وتشكل الولايات المتحدة 11% من واردات الاتحاد الأوروبي، ونظرا لتماثل مستويات الدخل للفرد والتوجهات الثقافية، فإن التداخلات في الانتاج والاستهلاك كبيرة.
ونظرا لذلك قد يكون هناك نتائج فورية ايجابية نظرا للتخصيص الافضل للموارد وخلق انظمة استثمارية اكثر انسجاما ومعايير اقوي والقضاء علي عوائق غير جمركية وتنظيمية عفا عليها الزمان.
السبب الثاني وراء تراجع الاهتمام باقتراح الشراكة يعود إلي قضية اوسع نطاقا، حيث يبدو ان موجة لا نهاية لها من الدراما السياسية قصيرة الاجل جعلت من الصعب علي كل من أوروبا والولايات المتحدة التركيز لمدة طويلة علي اي من المبادرات الهيكلية والعملية، ففي أوروبا قوضت المناقشات جراء نتائج الانتخابات الايطالية، جاءت هذه النتائج كأحدث علامة علي رفض المواطنين المحبطين في عدد متزايد من الدول للأحزاب السياسية التقليدية والوضع السياسي الراهن، مما يضيف إلي حالة عدم اليقين بشأن المسار المحدد الذي تسلكه عملية التكامل الاقتصادي والمالي في أوروبا.
وفي الولايات المتحدة اتخذت الاضطرابات شكل مصغر من الدراما المالية، فمع خذل الكونجرس المختل للشعب الأمريكي مرة أخري، أصبحت البلاد الآن علي شفا خطة لخفض الإنفاق في الموازنة والتي تشكل رياحاً معاكسة أخري مفروضة ذاتياً تعرقل النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وإحراز أي تقدم في الحد من التفاوت في الدخول والثروات.
وباجتماع الأمرين يصبح لدينا حاجز يحول دون إجراء المفاوضات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وهو الحاجز الذي يجعل الجدول الزمني الذي يتألف من عامين لإتمام الاتفاق طموحا إلي حد كبير إن لم يكن غير واقعي.
ويتعلق السبب الثالث بالحالة السيئة التي أصبح عليها الحوار السياسي العالمي، علي الرغم من كل الأحاديث السارة عن التحديات العالمية والمسئوليات المشتركة.
تعد الأسباب الثلاثة جميعها مؤسفة للغاية، حيث انها تؤكد علي عجز الغرب الواضح عن الخروج من عقلية الأمد القصير ليتمكن من الاستجابة للمخاطر والفرص المرتبطة بالعملية التاريخية المتمثلة في إعادة تنظيم التحالفات الوطنية والعالمية.
يكمن الوعد الحقيقي بتجارة عبر الأطلسي أكثر تحررا في قدرته علي تحويل التجارة العالمية، وشبكات الإنتاج، والمنظمات المتعددة الأطراف لصالح الجميع، وعلي مستوي أكثر عمومية، فإنه يعمل علي ترشيد النظام الحالي الذي يتألف من أربع كتل هزيلة الأداء متمثله في الصين، وأوروبا، والولايات المتحدة، وبقية العالم إلي ثلاث كتل، ثم في نهاية المطاف إلي كتلتين أفضل أداء واللتان لن تكونا امامهما خيار سوي العمل بشكل جماعي جيد: كتلة تهيمن عليها الصين، والأخري يهيمن عليها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
إن اقتراح التجارة الأكثر تحرراً عبر الأطلسي يحمل إمكانات تحويلية، ويأتي في الوقت الذي أصبح فيه الغرب أكثر انزلاقاً إلي الأسفل بفعل اضطرابات قصيرة الأجل وجمود سياسي مستمر، ومع هذا فإن آفاق التنفيذ ليست واعدة علي الإطلاق، والاقتراح في حد ذاته قادر علي العمل كمحفز لتكييف التوجهات السياسية مع الواقع الحالي، ولكنه يخضع للقوي التي تتسم باللا مبالاة المنتمية إلي عقلية القرن العشرين والمؤسسات التي تعد بطيئة جدا في تكيفها مع التحديات التي يفرضها القرن الحادي والعشرين والفرص التي يتيحها.
إعداد: نهي مكرم
المصدر: بروجيكت سينديكيت