يظهر تأثير نقص الادخار في الإنهاك الشديد الذي يشعر به الجهاز المصرفي نتيجة ارتفاع حجم الأوراق الحكومية خلال العامين الماضيين.
تقل معدلات الادخار المحلي حالياً عن 15% بحسب التصريحات الحكومية، وهي معدلات لا تكفي لتلبية الطلب علي التمويل سواء من قبل الحكومة أو للمشروعات الكبيرة.
في العام 2009 أعلنت الحكومة عن تأسيس صندوق لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة حجمه مليار جنيه، وبعد أربعة أعوام وعدة حكومات تمكن الصندوق من جمع 130 مليون جنيه فقررت الحكومة الحالية إطلاق صندوق آخر للمشروعات الكبري حجمه 100 مليار جنيه.
حسناً فعلت الحكومة عندما فكرت في حل مشكلة تواضع حجم الادخار القومي المستمرة منذ 20 سنة، لكن الأفكار الشاذة مضمونة الفشل لن تكون هي الحل الأمثل لمثل هذا النوع من المشكلات.
وعندما تفشل الدولة لمدة أربعة أعوام في جمع مليار جنيه، لا ينبغي لها أن تفكر في جمع 100 مليار لحل مشكلة عاجلة تتمثل في توفير التمويل للمشروعات الكبيرة. كما أنه لا ينبغي لها أن تفكر في حل أزمة تمويل المشروعات الكبري وتغض النظر عن أزمة التمويل التي تعاني منها هي ذاتها، والتي انعكست بشكل أساسي في صورة تكلفة الدين الحكومي المنفلت منذ عامين وجفاف منابع التمويل البنكي للشركات تقريباً خلال نفس الفترة.
وحل مشاكل نقص التمويل في مصر وارتفاع تكلفته لن يأتي إلا عبر رفع معدلات الادخار، ومعدلات الادخار الحالية لن ترتفع عبر الأساليب التقليدية لأن هناك نقصا لا تخطئه عين في أدوات وقنوات الادخار الإجباري، وهي القنوات التي تجمع جزءاً من أموال المجتمع لتحقيق مصلحة لأفراده عند الحاجة.
وتعتمد نظم الادخار الحالية علي ثلاث أدوات رئيسية فقط، واحدة منها اختيارية وهي البنوك والثانية إجبارية وهي صندوقا التأمينات والمعاشات والثالثة مختلطة لكن يغلب عليها الطابع الاختياري وهي التأمين.
ويظهر تأثير نقص الادخار في الإنهاك الشديد الذي يشعر به الجهاز المصرفي نتيجة ارتفاع حجم الأوراق الحكومية خلال العامين الماضيين، وارتفاع أسعار الفائدة بشكل كبير.
ولكي تحشد مزيدا من المدخرات علي الحكومة ألا تفكر في اقناع الشعب والشركات بالاستثمار في صناديق ضخمة للحصول علي عوائد في نهاية المطاف، لأن أفكار من هذا النوع مجربة وثبت فشلها ولا داعي لتكرار الفشل. وبدلا من ذلك عليها التفكير في احتياجات الناس غير الملباة أو المكلفة وتعمل علي توفيرها عبر الأدوات المعروفة في العالم كله.
ويمكن لمعدلات الادخار أن ترتفع دون عناء كبير إذا أطلقت الحكومة نظاماً إجبارياً للرعاية الصحية يغطي جميع شرائح المجتمع كما هو الحال في معظم الدول المتقدمة، شرط أن يكون النظام مدروساً وفعالاً لا أن يولد عاجزاً منذ البداية أو معتمدا علي الموازنة العامة في الوفاء باحتياجاته.
كما أنها تستطيع أن تطلق صندوقاً للحماية من البطالة يكون الاكتتاب فيه إجبارياً مقابل تعويضات يدفعها الصندوق لمن يفقد عمله، لكن هذا الحل يحتاج أولا إلي تعزيز الاقتصاد الرسمي حتي لا يفشل النظام من بدايته.
وقطاع التأمين الذي يقول العاملون فيه إن حجمه لا يزيد علي 1% من الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يتضاعف حجمه إذا قررت الجهات التنظيمية زيادة عدد التأمينات الإجبارية، والتي تزيد علي 100 نوع في العالم بينما عددها في مصر قد لا يزيد علي أصابع اليد الواحدة.
وفي بلد يعيش أكثر من نصف سكانه في الريف ويمثل قطاع الزراعة في اقتصاده جزءاً مهماً لا يعقل الا يكون فيه نظام للحماية من تقلبات أسعار السلع الزراعية، والمعروف أن كل نظم الحماية أو التحوط تتحول في شكلها النهائي إلي وعاء ادخاري.
وهناك أنواع كثيرة أخري من أنظمة التحوط «بغرض الحماية وليس المضاربة» يمكن إدخالها بشكل اختياري إلي السوق ومطبقة في كثير من الأسواق الأخري وتسهم إلي حد كبير في رفع معدلات الادخار.
ولا يجب التعامل مع رفع معدل الادخار المحلي باعتباره هدفاً في حد ذاته، فهذه المعدلات بلغت 25% في مطلع التسعينيات من القرن الماضي بحسب احصائيات البنك الدولي، ومع ذلك لم يشهد الاقتصاد انذاك طفرة في معدلات النمو، واستمرت معدلات الفائدة مرتفعة.
وتقل معدلات الادخار المحلي حالياً عن 15% بحسب التصريحات الحكومية، وهي معدلات لا تكفي لتلبية الطلب علي التمويل سواء من قبل الحكومة أو للمشروعات الكبيرة، ويتعين علي المستثمرين التعامل مع أدوات محدودة النطاق للحصول علي التمويلات.
ولا تستطيع الحكومة في الوقت الحالي تدبير تمويلات كافية لمشروعات الكهرباء أو مشروعات البنية الأساسية الأخري سواء تلك التي تقوم بها أو التي عهدت للقطاع الخاص بها، ليس فقط بسبب محدودية التمويل البنكي بل ولسبب آخر أكثر أهمية هو قصر أجل أموال البنوك.
ولا تستطيع البنوك في مصر عادة تلبية أي طلب تقريباً للتمويل يزيد أجله علي عشر سنوات، وعدد محدود فقط من البنوك هو الذي يستطيع الإقراض لأجال تزيد علي خمس سنوات، نتيجة تركيبة قواعد الودائع لديها، وهي آجال لا تتناسب إطلاقا مع أي مشروعات طموحة.
لذا فليس غريباً أن يكون نصيب مشروعات البنية التحتية من التمويل البنكي محدودا حتي الآن، كما أنه ليس غريبا أن تكون الحكومة هي المصدر الرئيسي للتمويل.
ويعتمد إطلاق خطط طموحة في مجال البنية التحتية أو أي مشروعات قومية كبري علي تغيير هيكل التمويل الحالي، وإيجاد بدائل للتمويل البنكي أطول أجلا. وتستطيع أموال صناديق التقاعد والضمان الصحي والبطالة وشركات التأمين أن تكون بديلا أفضل حتي من البنوك، عن طريق الاكتتاب في سندات وصكوك طويلة الأجل، كما أن الأدوات الإجبارية المقترحة للادخار ستضيف إلي سوق الادخار بشكل يدفع للتأثير في تكلفة التمويل في مصر، وخصوصا تمويل الحكومة التي تخصص أكثر من ربع الانفاق في الموازنة العامة لسداد الفائدة علي مديونيتها.