إحترف السياسيون والقائمين علي شئون البلاد منذ عشرات السنين علي السعي الجاد للحصول علي معونات ومنح وعطايا من دول مختلفة “شِحاته يعني!” بغرض سد عجز الموازنة أو تمويل مشروعات بعينها أو حتي تجميل القاهرة!! وأتعجب بشدة علي سهولة التفكير في ذلك وسهولة الحصول عليه…. مصر المليئة بالخيرات والمصادر الطبيعية والبشرية “تشحت” لتغطية ٢-٥ مليار دولار بعد ما كانت تعطي الهبات من قبل!!!
ياسادة ما يحدث في هذا الأمر الجلل هي جريمة ترتكب في حق الأجيال لأثاره السلبية في إعتماد الشعب علي الهبات وتعوده عليها مع ترك فضيلة العمل والكد والإبتكار.
فلننظر الي عجز الموازنة الذي يسعون لتقليله لماذا حدث في المقام الأول..دعم للطاقة والخبز، مرتبات وأجور العاملين بالدولة يشكلان أكبر أوجه الصرف في موازنة الدولة بجانب المشروعات الحكومية والمرافق العامة . فإذا ما أمعنا التحليل نجد ان منظومة الدعم المَحكِي عنها منذ الستينات، فاسدة ومُخَّرِبة ولا تصل الي مستحقيها منذ ان بدأت. الحلول لها كثيرة تنتظر إرادة التنفيذ وصلابة مواجهة الفساد المستشري بها. كذلك الحال في أمر الصناديق الخاصة وميزانية رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس الشعب، كلها يشوبها التضخم والفساد وسوء التنظيم. إذا استطعنا الوصول الي حقيقة أرقام وأحجام هذه الميزانيات سنجدها أضعاف المنح والهبات الممنوحة لنا.
من الأجدر ان ننظر الي الأمور بشكل علمي وعملي في نفس الوقت. المطلوب هو ترشيد وتنظيم هذه الأموال بشكل تؤدي الغرض منها وفي نفس الوقت نقلل من الفساد والإهمال والصرف الغير رشيد الذي يحدث وكأنها “تكية” القائمين عليها.
ما حدث من تغيير فكري في مصر منذ ٢٠١١، يجب ان يكون دافعا لتحسين الأوضاع الإقتصادية بشكل جذري وسريع. لن يتآتي ذلك دون حُسن الإدارة والتنظيم في إدارة موارد الدولة الطبيعية والنقدية حتي نُوقف فِكر التسول المُسيطر علي كثيرين الآن ويهللون له. وفي هذا الصدد، أود أن أقترح بعض النقاط والحلول التي قد تبدو بديهية للبعض إلا أنها بالتأكيد قد غابت عن البعض الأخر.
أولا مسألة دعم الطاقة والمتمثلة في البوتاجاز والكهرباء وهما موجَّهان “إفتراضيا” لمحدودي الدخل والذين هم غير مستلكهي للطاقة لعدم قدرتهم أصلا علي شراء الأجهزة المستهلكة لها. فينتهي الأمر الي إستفادت القادرين من هذا الدعم مما أدي الي إختلال في توزيع الدخل ومن ثم الظلم الإجتماعي. الحل هنا أن يتم إستبدال البوتاجاز بالغاز الطبيعي مما سيقلل المخصصات المطلوبة لدعم البوتاجاز وذلك طبقا لمعادلة بسيطة وهي: حجم الدعم لأنبوبة البوتاجاز الواحدة حوالي ٥٥ جنيه ومعدل إستهلاك الأسرة من البوتاجاز شهريا حوالي ١،٥ أنبوبة أي تخصص لكل أسرة حوالي ٨٢،٥ جنية شهريا، اي ٩٩٠ جنية سنويا. إذا ما افترضنا وجود حوالي ٥ مليون أسرة فقط معتمدة علي البوتاجاز سنجد ان تكلفة هؤلاء في منظومة الدعم حوالي ٥ مليار سنويا. من ناحية أخري إن متوسط تكلفة دعم إستهلاك الأسرة من الغاز شهريا حوالي ٥ جنية أي ٦٠ جنية سنويا نجد ان الوفر هنا حوالي ٩٣٠ جنية أي ٤،٦ مليار جنية. ُانه من الأجدي لنا تحويل كل أو أغلب هذه الأسر الي الغاز وتمويلهم من هذا الوفر لما سيحققه من عائد علي المدي المتوسط كما اسلفت. كما انه سيقطع الطريق علي المتاجرين علي محدودي الدخل من الوسطاء.
أما دعم الكهرباء فإن حله يكمن في عدة حلول تطبق بالتوازي ومنها ترشيد الإستهلاك -إجباريا – كما هو حال أغلب دول العالم من خلال البدء في مشروع توعية قومي يستهدف معدلات ترشيد سنوية مع إعطاء حوافز للمُرشِّدِين. بالإضافة الي ذلك إحكام السيطرة علي سارقي الطاقة وهي نسبة وإن كانت ضئيلة (حوالي ٢٪ من إجمالي الإستهلاك)، الا انها مؤثرة وكبيرة من ناحية القيمة النقدية. كما يجب تعميم العداد ذات البطاقة المدفوعة مسبقا مما يساعد المستهلك علي تحديد استهلاكه بنفسه. يجئ بعد ذلك، توفير مصادر غير تقليدية لتوليد الكهرباء مثل الطاقة الشمسية واستخدام المخلفات والرياح وغيرها من الطاقات المتجددة والتشجيع علي الابتكار فيهم من خلال خطة عشرية تقدم فيها الحوافز للمبتكرين وتوفير التمويل اللازم للمُجدي منهم إقتصاديا وتجاريا.
من مهازل الزمن في التاريخ المصري هي منظومة التعليم والتي إن أراد أحد ان يضع خطة لتدمير التعليم لم يكن لينجح كما فعلنا “دون قصد”… المدارس والجامعات والمعاهد بالمجان وتُدفع في الدروس الخصوصية المليارات من نفس الأشخاص المطلوب دعمهم بالمجان..هل هذا يُعقل؟!…ناهينا عن تدني مستوي التعليم مكانا وأسلوبا ومنهجا ومُعلما..حل هذه المعضلة يكمن في تحديد مصاريف لكل مستوي تعليمي يغطي المصاريف الأساسية المقبولة من ناحية المكان والمعلم مع إعطاء حوافز للتفوق وعمل صندوق لدعم الغير قادرين من خلال منح دراسية ، يقوم بدراسة الحالة وتقرير حجم الدعم المطلوب لهم. كذلك التشجيع علي إنشاء جمعيات أهلية تساعد الطلاب علي المصروفات. المحور الأخر هو الإهتمام بالمعلم تعليميا وتربويا ومظهريا ومكانةً وأجرا..
المهزلة الكارثية الأخري هي دعم الصحة من ناحية حجم ونوعية الخدمة المؤداه و منظومة التأمين الصحي وهم جميعا فصل من فصول الكوميديا السوداء وإن كانت أشد سواداً. الحل في هذا الشأن هو عمل نظام تأمين صحي شامل لكل المصريين مع تطبيق نظام “إسترداد التكلفة” في خدمات المستشفيات والمطبق في دول عديدة وأثبت نجاحه.
المستهدف في هذين القطاعين هو حسن التدبير والإنفاق فيهما وليس التخفيض لكونهم من اساسيات الحياة.
ثم يجئ نظام دعم الغذاء وهو ما عفا عليه الزمن وكفا. وفي هذا الخصوص، يجب وضع خطة خمسية يتم خلالهم تحويل الدعم العيني الي دعم نقدي مع بناء قاعدة بيانات عن الحالة الإجتماعية الحقيقية للمستفيدين مع تحسين الدخول بالتوازي وربطها بالانتاج.
وأخيرا ، منظومة المواصلات العامة المُهدِرة للمال والجهد والوقت والطاقة والصحة. إن أوجة المواصلات العديدة من أتوبيسات (عامة وخاصة) الي القطارات المتهالكة بالرغم من وجود شبكة سكة حديد محترمة ومترو أرضي وأنفاق غير مستغلة بكفاءة ويجب تطويرها لتوفير الكثير من المال والجهد والوقت. بالإضافة الي ذلك، عشوائية شبكة نقل البضائع والتي إن نُظمت ستوفر المليارات من الوقود والوقت وصيانة الطرق. الإهدار للمال هي سمة هذه المنظومة ولنا مثال في ذلك رحلة شخص بسيط من قريته في كفر الشيخ مثلا الي القاهرة سيضطر الي ركوب أكثر من ٤ مواصلات وسيستغرق حوالي ٤ ساعات للوصول الي غايته ناهيه عن أحوال وسلامة وسيلة الركوب.. تكلفته تتعدي ٢٥ جنيها، في حين إذا وفرنا له مواصلاتين فقط بأجرة ووقت أقل سنوفر علي الأقل ربع التكاليف الحالية وسيكون المواطن أسعد حالا وهذا من ضمن الأهداف المرجوة..
ما أقترحه هنا قابل للنقاش، ولكني اطرحه للتفكير فيه وبسرعة مع التقبل التام لأي أراء أخري تتطرح علي ان يكون هدفها توفير الملايين والمليارات من الجنيهات من إعادة التنظيم والترشيد وحسن التدبير والتي بدورها ستغنينا من قول “حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة”…فماذا نختار التسول …ام العمل!
المقال بقلم حسام هيبة خبير الاستثمار