يبدو لي أن هناك فكرة متغلغلة في المجتمع المصري رغم أنها لم تحظى بنقاش مجتمعي حقيقي منذ الستينات وهي باختصار أن الدولة المصرية مسئولة عن التوظيف مقابل مرتب كاف ومتناسب مع غلاء الأسعار و مسئولة عن علاج الناس مجانا و بجودة عالية و مسئولة عن تعليمهم و بمستوى تعليم مرتفع،ونتيجة أن هذا لا يحدث الآن فيكون سبب عدم حدوثه أن الوزير أو المسئول حرامي و بيسرق الناس.
المعضلة أن هذا تصور عن دور الدولة تقريبا انهار منذ السبعينات, هذا تصور كان موجود و ناجح في مصر منذ مالا يقل عن 40 سنة ماضية و ظل يتدهور يوما بعد يوم, عهدي السادات و مبارك لم يستمروا في هذا التصور ليس بسبب أنهم أشرار و لكن كان لديهم أسباب مقنعة و منها أن عدد سكان مصر يزيد و إدارة القطاع العام تسوء و الدخل القادم منها يقل و الدولة أصبحت أفقر و لا تستطيع الاستمرار فيما كان متاحا منها في الستينات و لا تنسى أن مصر في الخمسينات والستينات ورثت نظام إدارة محلية كفؤ من أيام الملكية و لكن لم تستطع مصر تطوير هذا النظام و خسرت رجالة بعد خروجهم للمعاش بدون وجود صف ثان متعلم مثلهم, مما ساهم أيضا في التدهور العام الذي أصاب الخدمات التي تقدمها الدولة.
ففكرة دور الدولة في التوظيف و التعليم و الصحة تستحق نقاش مجتمعي حقيقي, نقاش يشرح فيه موارد الدولة و قدراتها, نقاش يشرح فيه كافة التصورات, مثلا حين يطلب أحدهم ضرائب زائدة لتمويل دور الدولة فهل هذا اقتراح قابل للتطبيق أم أنة يحمل مشاكل أكثر من فوائد؟ إلى الآن الصراع كله شعارات و شعارات مضادة, لكن لا يوجد نقاش حقيقي حول الموضوع.
لا يبدو أن أحد مستعد لنقاش صريح حول كل جوانب الموضوع, بعض هذه الجوانب قد يكون: – مصر بها حوالي 6.5 مليون موظف حكومي وهذا رقم كبير جدا وقدرات أي حكومة للتعامل مع هذا العدد للتطوير الخدمة الحكومية عادة ستكون ضعيفة جدا
– هل سيتحمل المجتمع إعادة هيكلة للحكومة لتصبح أكثر كفاءة على تقديم الخدمة, بمعنى فكرة مثل المعاش المبكر ل5 مليون موظف على الأقل والتركيز والتدريب لرفع مستوى الكفاءة ورفع المرتبات ل2 مليون موظف فقط؟
– هناك فساد حقيقي و القضاء علية ليس سهلا, هذا الفساد قد يكون هو ما يمول موظف مرتبة لا يكفيه فماذا ستفعل معه؟ هل نريد حقا القضاء على الفساد و نعتبره عيبا؟ سؤال حقيقي واقعي وليس مطلوب إجابة نموذجية.
– الاقتصاد المصري “في بعض التقديرات” نصفه اقتصاد غير رسمي لا يدفع ضرائب, بمعنى أن رفع الضرائب سيؤدى إلى أن يتحملها من يعمل رسميا و يتجنبها من لا يعمل بشكل رسمي, فهل هذا عدل؟
– المنظومة القانونية في مصر لا هي اشتراكية و لا هي رأسمالية, فكيف ستحدد اتجاه الدولة مع قوانين متشابكة قد تسمح بالشئ و عكسه في نفس الوقت؟
– الجامعات المصرية تنتج مهنيين أطباء و محاميين و مدرسين مستواهم ضعيف بالمعايير العالمية, كيف نطور أداء الجامعات المصرية بدون كم هائل من الأموال؟ و كيف ستدار هذه الأموال و من سيدفعها؟
– هل يوجد أي اتفاق مجتمعي عن من يستحق خدمة طبية و تعليمية مجانا؟ أم أن المجانية مبدأ ويستفيد منة المحتاج ومن لا يحتاج؟ وكيف تفرق الدولة بينهم؟
– العمل الخاص في مصر معقد جدا نتيجة البيروقراطية و الفساد و تعقيد القوانين, كيف تريد للقطاع الخاص دفع ضرائب زيادة في هذه الظروف؟
– مصر بلد به تضخم شديد و عجز موازنة يجعل الحكومة تقترض بسعر حول 12% , مما يجعل الحكومة تنافس القطاع الخاص في الحصول على تمويل من البنوك, بمعنى كيف تطالب من القطاع الخاص تمويل الحكومة بضرائب إضافية والحكومة تنافسهم في التمويل نتيجة عجز موازنة الحكومة؟
نعم من حق المواطن أن يحصل على خدمة حقيقية جيدة و لكن أيضا لابد من منظومة تسعير حقيقية, لكن هل يؤمن المصريون بذلك؟ إذا كان المصريون لا يؤمنون بذلك فهل حقا يعلمون قدرات بلدهم الحقيقية على تقديم خدمة مجانا؟
ما العمل إن كان إيمان المصريين عن دور الدولة يختلف عن قدرات هذه الدولة؟ هل هناك أي فرصة للمصارحة ؟ السياسي دوما يسعى لأصوات الناس و الناس لن تعطى أصواتهم لمن يقول لهم مصر ليست كما تظنون ولتصبح كما تظنون سيتطلب الأمر عمل كثير ووقت طويل وقد لا تستفيدوا أنتم منة و لكن قد يستفيد أولادكم؟
المقال بقلم مالك سلطان خبير الاستثمار