إذا سألت القارئ عن دولة فيها 50 مليون مواطن يستفيدون من برنامج دعم الغذاء، وحد أدنى للأجور، وتأمين صحى، ونظام تأمينات اجتماعية عصرى، وضرائب تصاعدية تصل إلى 35% وتشمل الدخل داخل وخارج البلد (نعم خارج البلد، علشان الناس التى تقول إن ضريبة الثروة لا تصلح!)، وبدل بطالة للعاطلين، وبرنامج إعادة تأهيل لهم لإعادتهم للعمل، إذا قلت كل ذلك ثم سألت القارئ: عن اسم البلد؟ الولايات المتحدة الأمريكية.. معقل «الرأسمالية»، ثم إذا سألت القارئ عن بلد آخر.. يقومون فيها بخصخصة الشركات، وهناك عرض وطلب وعدد البليونيرات فيها هو الأعلى فى آسيا والثانى فى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ثم سألت القارئ عن اسم البلد؟ الصين معقل «الاشتراكية»، ثم إذا سألت القارئ عن اسم أول رئيس مصرى طرح شركات القطاع العام فى البورصة؟ الرئيس جمال عبدالناصر عندما طرح شركة الحديد والصلب!
لا يوجد شىء اسمه رأسمالى أو اشتراكى فى العالم الذى حولنا.. فقط فى عقول بعضنا وكوريا الشمالية! العالم أخذ يطور فكرة العدالة الاجتماعية ودور الدولة فى حماية نسيج المجتمع وفرق بين أهداف «العدالة الاجتماعية «(اليسار مجازا) و«أدوات السوق» (اليمين مجازا) فلا تناقض بين أسواق وعرض وطلب لأنها تحقق الكفاءة والتنافسية وبين تدخل الدولة بطرق شتى، تختلف من عصر لآخر، لضمان حد عادل وحياة كريمة لكل مواطنيها. أظن أن البلدان الإسكندنافية الأكثر تطورا (ارتقاء) فى المزج بين عدالة اجتماعية ضرورية وحرية أسواق تعمل بكفاءة، فالعبرة بالسياسات وليس بالأدوات. فالموضوع لا علاقة له «بأداة» فى حد ذاتها كالطرح فى البورصة مثلا، ولكن فى تطبيق مجموعة من السياسات التى تضمن تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وذلك عن طريق أدوات تنتمى للقرن الـ21. فالمشرط «أداة» علاج فى يد الطبيب، و«أداة» قتل فى يد البلطجى، العبرة بالسياسات وليست بــ«الأدوات».
نقف كوطن أمام تماثيل وأصنام نعبدها بدون أن نفهم معانيها (على فكرة هذا الموضوع يتعدى البعد الاقتصادى لأنه يعكس تفكيرنا فى موضوعات كثيرة.. ماعنديش الجرأة أو الحكمة للحديث فيها!) نعبدصنم القطاع العام.. والعالم انتقل للملكية العامة والصناديق السيادية. نعبد صنما اسمه عرض وطلب.. والعالم انتقل لوضع حدود وحيز لها يضمن عدالة اجتماعية، نعبد أصناما ولا نفرق بين «الغاية» و«الوسيلة».. «الأهداف» و«الأدوات».. «الثابت» و«المتغير».
مع الأسف، الثنائيات فى العقلية المصرية هى جزء من تخلفنا، يا معايا يا ضدى، يا إسلامى يا ليبرالى… يارأسمالى يا اشتراكى، وقد يكون السبب فى ذلك هو تأثير الطبيعة تاريخيا على العقلية المصرية بسبب حدة الانتقال من النيل والخضار إلى صحراء جرداء كما تحدث عنها العبقرى جمال حمدان.
أعود وأقول إن الاقتصاد المصرى فى شكله الحالى، متأثر بتجربة الستينيات وأدبياتها، ثم عصر الانفتاح وإغراءاته أنشأ «بظراميطا» اقتصاديا (ولا أقول نظاما) أخذ أسوأ ما فى النظامين. منذ عامين ونصف العام، بدأت أكتب عن الوضع الاقتصادى الكارثى وتعرضت لحلول تحفظ للاقتصاد قدرته على توليد فرص عمل وإضافة طاقات إنتاجية جديدة مع توفير مجال للعدالة الاجتماعية موجود فى بلدان أخرى (لم أخترع شيئا جديدا) ولكن مع الأسف، الوضع يتدهور كل يوم، والحكومات المتعاقبة منذ 2011 لم تفعل شيئا بل على العكس وبسبب فشلها فى إدارة الملف الاقتصادى ازدادت الأمور سوءا وانتقلت «الجلطة» (إذا جاز التعبير) من الرجل إلى قرب المخ! فى مصر ما بعد الثورة، ازدادت المديونية على الدولة ومؤسساتها من تريليون جنيه فى عام 2011 إلى 2 تريليون جنيه تقريبا (أضفنا ديونا فى 3 سنوات بقدر ما استلفناه فى قرون!) وحرقنا ما يزيد على 60 مليار دولار من العملة الأجنبية والنزيف مازال مستمرا! (الثورة لا علاقة لها بذلك لأن الحكومات المتعاقبة لا علاقة لها بالثورة!) ولا أود أن أكرر ما أقوله.. ولكن مصر لن تنصلح إلا إذا بدأت تقرأ من كتب القرن الـ21 وليس من كتب القرن الـ19! مصر ماتكملش كده.
المقال لخبير الاستثمار حسن هيكل نقلا عن جريدة الشروق
لينك المقال:
http://shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=13112013&id=386db92c-be85-46d5-89d5-85700e76044f