بقلم: طارق عثمان
يسود فى مصر تصور خاطئ بأنها تعود مجدداً لتركز السلطة التى خنقتها على مدار ستة عقود، فى ظل دفع وزير الدفاع عبدالفتاح السيسى نحو الرئاسة، ولكن اقتصاد الدولة وسياسته الاجتماعية يسحبانها فى اتجاهين مختلفين.
وصحيح أن تركز السلطة ذو جذور عميقة فى التاريخ المصري، فمنذ 7000 عام، حاول شخص ما تحسين المحصول، وظهرت الزراعة المنظمة، وأصبح بإمكان المزارعين الناجحين شراء أراضى وعمالة غيرهم، وأصبح المتحكمون فى الماء وبالتالى الريّ سادة مجتمعاتهم.
وبذلك ولدت فى مصر أول مملكة شديدة المركزية وذات سيادة هائلة على رعاياها، وبقيت المركزية مكوناً أساسياً من مكونات السياسة المصرية منذ آلاف السنين.
ثم بدأ العصر الليبرالى فى مصر منذ 100 عام منذ منتصف القرن التاسع عشر والذى أعطى الفرصة لظهور جامعات على غرار الجامعات الغربية، وقضاء علماني، ونقابات مهنية، وصحافة ديناميكية، وبالتالى خفت المركزية.
ولكن هذه التجربة انتهت بشكل مفاجئ فى 1952 عندما اطاح الضابط القومى الطموح، جمال عبدالناصر، بالملكية وأسس أول جمهورية ذات هيكل يدور حول الجيش.
ففى الستة عقود الأولى، أخضعت الدولة المؤسسات التى ازدهرت فى النصف الأول من القرن، ثم قضت على كل حسيب على قوتها، وعادت مركزية السلطة.
وبحلول العقد الأول من القرن 21، شاخ محمد حسنى مبارك بعد 35 عاما من الحياة المهنية العسكرية، وانقسمت صناعة القرار بين العائلة والحكومة والحزب الحاكم والجهاز الأمنى وزمرة قليلة، وتفشى الفساد، وارتفع التضخم، وتفجر التوزيع الجغرافى بعد تضاعف السكان فى أقل من أربعة عقود، ما وضع ضغوطاً ضخمة على موازنة الحكومة المنهكة أصلاً.
وعندما نزل عشرات الآلاف النشطاء الشباب إلى وسط القاهرة فى يناير 2011 احتجاجاً على هذه الأوضاع، ترددت أصداء مطالبهم والاقتصادية منها بشكل خاص مع طبقات اجتماعية ضخمة.
وسقط مبارك، ورغم أن الأمر بدا وكأن الجمهورية المصرية الأولى انتهت، فإن طموحات النشطاء كانت مختلفة عن جموع الشعب، ومثلت الجولة الأخيرة من أول انتخابات حرة فى يونيو 2012 معركة بين قوتين هيمنتا على السياسة الاجتماعية فى نصف القرن الماضي.
وواجه مرشح يمثل الإسلام السياسى – الذى يواجه الدولة منذ 50 عاماً ولم يشارك فى المرحلة الأولى من الثورة – مرشحاً آخر يمثل الجمهورية الأولى نفسها.
ومع ذلك، فإن التصور بأن مصر تعود للمركزية خاطئ لثلاثة أسباب، فنتيجة الإصلاحات الاقتصادية على مدار العشرين عاما السابقة، أصبح القطاع الخاص لأول مرة فى نصف قرن أكبر مصدر للوظائف وللاستثمار الرأسمالي، وأصبح قطاع كبير من المصريين مهنيين متحضرين من الطبقة المتوسطة ذوى مصالح اقتصادية يسعون لحمايتها وتطلعات يسعون لتحقيقها، وهؤلاء ليسوا فقط يتوقعون بأن يكون لهم رأى فى شكل مستقبلهم بل سيطالبون بذلك.
والسبب الثانى هو التحديات الاجتماعية الاقتصادية التى تواجه الدولة، فمصر واحدة من أكبر مستوردى الغذاء، ودعم الطاقة لديها غير مستدام، كما ان لديها مشكلة بطالة حادة بين الشباب، وحقيقة أنها تحتاج بشدة إلى تحديث بنيتها التحتية وزيادة المساكن، وتعزيز قاعدتها التصنيعية يعنى أنه سيكون هناك طلب ضخم على الوظائف.
ولكن الدولة ينقصها رأس المال، وديونها السيادية ترتفع، وسخاء الحلفاء الخليجيين غير دائم، كما أنها ليس لديها عصا سحرية تواجه بها سوى حث القطاع الخاص المحلى والدولى على بذل رأس المال، وهذا سيقود إلى ظهور هيكل قوى متعدد الأقطاب.
والسبب الثالث، هو تغير المجتمع القوى البالغ عدده 85 مليون نسمة من بين 45 مليوناً تحت سن 35، فالمجتمع أصبح أكثر اتصالاً بالعالم، وعنداً، وجرأة، وريادة تجارياً واجتماعياً، لذا لا يوجد أى قوة مركزية تستطيع السيطرة على مثل هذا المجتمع لمدة طويلة، فهذه العوامل سوف تضعف المركزية بالتأكيد.
ومع ذلك هناك سيناريو آخر، فقد تتوغل قوى الدولة أكثر فى حربها ضد الإسلام السياسى مما سيسمح للجهادية بالازدهار ويقود إلى تشديد التدابير الأمنية وإضعاف سيادة القانون.
وهذا سيؤدى إلى سحب الاستثمارات الرأسمالية وعدم الوفاء بالمطالب الاجتماعية الاقتصادية مما سيؤجج بدوره الاضطرابات الاجتماعية فى وقت يترسخ فيه الاستقطاب وتشعر فئات مجتمعية كثيرة بأنها مهمشة أو مهددة.
وهذا السيناريو، سيجعل الشعبية الهائلة التى تتمتع بها قوى الجمهورية الاولى تتبخر، وسوف تلجأ الجموع مجدداًً للاحتجاجات الضخمة، وإذا حدث ذلك، فستعود مصر مجدداً إلى حافة الهاوية.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: الفاينانشيال تايمز