قوة المؤسسات ترسم مسار الدولة نحو الازدهار أو الانهيار
المحسوبية ممارسة راسخة لحكومات الدول المقسمة داخلياً
تعود تقاليد استغلال السلطة السياسية لتحقيق مكاسب شخصية إلى قديم الأزل.. وكذلك الجدل بشأن إذا ما كان الفساد متلازمةً ثقافيةً لأى تنمية فى دولة ما، أم أنه سرطان يجب استئصاله لتقدم المجتمع؟ ومع ذلك، لا يتعرض كثيرون لما وراء تيار مكافحة الإرهاب.
وخلال العام الماضي، تكشف عدد هائل من الفضائح، وأطلقت حملات مكافحة الفساد، وأجريت التحقيقات العميقة، وتمت الإطاحة بقادة بسبب اتهامات الفساد.
وتمر شركة «بتروباس» عملاق البترول البرازيلى الحكومي، بأكبر فضيحة فساد فى تاريخ الدولة، وتعد الشركة الأكثر مديونية فى العالم. ويخضع للتحقيق عشرات المدراء التنفيذيين فى «بتروباس»، وساسة، بما فى ذلك رؤساء مجلسى الشيوخ والنواب ورئيسة البرازيل، ديلما روسيف.
وفى المكسيك، يخضع الرئيس إنريكى بينيا نييتو لتدقيق شديد، بسبب منحه عقوداً كبيرة لشركات باعت له منازل بشروط ميسرة، بعدما ألغى بشكل مفاجئ عقداً مع اتحاد شركات بقيادة الصين لإنشاء شبكة سكك حديدية سريعة بسبب ادعاءات فساد.
وفى جواتيمالا، أجبرت لجنة مكافحة فساد مدعومة من الولايات المتحدة الرئيس أوتو بيريز مولينا على التنحي. وفى هندوراس، أطاح تحقيق مناهض للفساد بقيادة الولايات المتحدة، أيضاً، بأكثر العائلات ثراءً وأكثرها روابط سياسية.
وفى زيوريخ، وجهت التحقيقات الأمريكية والسويسرية تهم رشاوى لرئيس الهيئة المنظمة لكرة القدم العالمية «فيفا»، سيب بلاتر، الذى كان يوماً من الأيام لا مساس به.
وفى رومانيا، يُحاكم رئيس الوزراء، فيكتور بونتا فى قضايا تهرب ضريبى وغسل أموال.. أما جارتها مولدوفا، فهى معرضة لانهيار الحكومة فى أى لحظة حالياً، بسبب احتجاجات شعبية بشأن اختفاء أكثر من مليار دولار من أكبر ثلاثة بنوك فى الدولة.
ولو اتجهنا نحو الشرق قليلاً، سنجد أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوجان لا يدخر أى حيلة مؤسسية لإبطال اتهامات الفساد الموجهة له ولابنه ولمجموعة من الوزراء السابقين.
وبدأت حملة مكافحة الفساد الكاسحة التى يقوم بها الرئيس الصينى شى جين بينج، تؤتى ثمارها بعد إلقاء القبض على وزير الأمن السابق، وعضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، تشو يونج كانج، وشبكته من الحلفاء الأقوياء.
ويواجه رئيس الوزراء الماليزي، نجيب عبدالرزاق، تصويتاً بحجب الثقة بعد ادّعاءات بأن صندوق التنمية الحكومى أودع 700 مليون دولار فى حسابه المصرفى الشخصي.
وفى الوقت نفسه، ينتظر المستثمرون الأجانب والشعب النيجيرى على حدٍ سواء، اتخاذ الرئيس، محمدو بوهاري، خطوات بعدما جاء إلى السلطة بوعد القيام بحملة عنيفة على الفساد.
وفى محاولة بائسة لإنهاء احتجاجات الشوارع، أطلق رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، حملةً كاسحةً على الفساد، أطاحت بعدد من الوظائف الحكومية الطائفية.
واللائحة لا تنتهي، ولكن الاتجاه ملموس، ويبدو أن الزخم يتزايد حول العالم، وتحت الظروف المختلفة، لكشف وسحق الفساد، وأصبح على أكثر الأفراد حصانةً فى النخبة السياسية أن يراقبوا ظهورهم بحذر أكثر من أى وقت مضى.
والسؤال المثار حالياً هو: «لماذا يمكن أن نفترض أن العالم يتحرك جماعياً لينظف سجله؟ وأن الهيئات الدولية، التى تشجع على الإدارة الجيدة، ويساعدها على ذلك، قنوات شبكات التواصل الاجتماعى، بدأت تحقق نجاحاً فى تحريك الشعوب للمطالبة بالمزيد من قادتهم».
ومع ذلك، فالأمر ليس بهذه البساطة. فحتى فى قائمة الحالات المذكورة بالأعلى، هناك اختلافات كبيرة فى درجة النمو الاقتصادى لكل دولة، وفى المناخ السياسى الداخلي، والظروف الجغرافية السياسية.
جذور الفساد
وكرّس العلماء جزءاً كبيراً من تفكيرهم للعوامل التى تحرك الفساد، وما يخفف آثاره المدمره، وما الدور الذى يلعبه الفساد، سواء للأفضل أو الأسوأ، فى التنمية الاقتصادية لدولة ما، وفى البلدان المبتلية بـ«لعنة الموارد»، التى تعتمد اعتماداً مفرطاً على الصناعات الاستخراجية، يذهب جزء كبير من الأموال التى تحصل عليها الشركات المملوكة للدولة بكل سهولة لجيوب النخبة السياسية الصغيرة.
ويساعد النهج الاجتماعى على توضيح الاختلافات بين الثقافات وعلى فهم أسباب الفساد. فعلى سبيل المثال، يزدرى الغرب التقاليد القبلية التى يتم بمقتضاها يتم توزيع ممتلكات الفرد إلى شقيقه أو ابن عمه. وهناك أجزاء فى العالم حيث يُعتبر فيها تفويض الأعمال التجارية لشخص ما إلى شخص غريب، أمراً فى غاية التهور والاستهتار. وستخبرك الجغرافيا السياسية بأن البلدان التى يعد من الصعب مادياً أن تحكم، ستكون الأكثر عرضة للرشوة، وإذا كانت الدولة مقسمة داخلياً من حيث سماتها الجغرافية، على نحو يسمح بإدراج تطور الثقافات والطوائف المختلفة تحت شكل من أشكال القانون المركزى، فمن المرجح إذن أن تكون المحسوبية ممارسة راسخة للحكومة، وسيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، اقتلاعها.
ويؤكد صامويل هانتينجتون، أستاذ العلوم السياسية الذى توفى عام 2008، أن ترويض الفساد وترسيخ النظام السياسي، يعودان للمؤسسات.
فإذا كانت المؤسسات تلتزم بسياسة الأنا السائدة اليوم، فسوف ينتج عن ذلك فجوة واسعة بين النخبة السياسية والمجتمع المدني، ما يترك مجالاً واسعاً لتطور ثقافة الإفلات من العقاب.
ومن وجهة نظر هانتينجتون، فإن أسلوب الحكم (على سبيل المثال، ليبرالي، ديمقراطي)، لا يعد شرطاً مسبقاً للإدارة الفعالة، ولكن، مرتبة الحكومة، وبالتالى قوة مؤسساتها، هى التى سترسم مسار الدولة نحو النمو أو التدهور.
حتى إن «هانتينجتون»، افترض أن الفساد يمكن فى الواقع أن يعوض ضعف سيادة القانون عندما تصبح الدولة مليئة بالبيروقراطية، وبعبارة أخرى، سينجز الفساد الأشياء فى البلدان التى لا تعمل فيها بكل بساطة الطرق الرسمية للحكومة. والسؤال الذى يجذب انتباهاً أقل بكثير هو ما الذى يغذى محركات مكافحة الفساد، وما الذى يعطى هيئات مكافحة الفساد الجديدة حول العالم المساحة والجرأة للتحرك الآن؟ لا توجد بالطبع إجابة واحدة، ولكن الفحص الدقيق الذى يتبع هذه الإجراءات يعود إلى تراجع معدلات النمو والتنافس السياسى الداخلى وتشجيع القوى الخارجية الأكبر التى تسعى لتحقيق مكاسب جيوسياسية خاصة بها.
حملات مكافحة الفساد الحالية
يركز هذا الجزء من النقاش على تركيا والبرازيل والصين والمكسيك والهند وإندونيسيا، إذ شهدت كل منها نمواً اقتصادياً كبيراً منذ أوائل الألفية الثالثة. وشوه الفساد بشدة كل قصة من قصص هذا النمو. وتتضمن المؤشرات العالمية لإدارة الحكم التابعة للبنك الدولي، مؤشر «السيطرة على الفساد» باعتباره واحداً من المتغيرات الأساسية لقياس جودة الحكم فى البلدان، ويصنف سنوياً المؤشر، المستمد من مجموعة من المصادر التى تقيس كل شيء بدءاً من مفهوم الفساد من خلال الدراسات الاستقصائية إلى سياسة مكافحة الفساد وملاحقة مرتكبيها، البلدان فى ترتيب يبدأ من واحد وينتهى بـ100.
ويشير الرقم الأعلى إلى سيطرة أقوى على الفساد، فى حين يشير الرقم الأقل إلى ضعف السيطرة على الفساد.
وفى أوقات الازدهار، عندما يكون الائتمان وفيراً، وتتدفق بقوة الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الدول النامية، يكون الفساد ممكناً على أوسع نطاق.
ومع ذلك، عندما تكون الحكومة هى الطرف الرئيسى الذى يمنح مشروعات البنية التحتية بملايين، وفى بعض الأحيان بمليارات الدولارات، تكون هناك فرصة وفيرة لحشو الميزانية بالامتيازات السياسية. وتعد كل خطوة، بدءاً من دراسات الجدوى التقنية والبيئية إلى الصيانة المستمرة، فرصة لموظفى الحكومة ورجال الأعمال لافتتاح المشروعات فى العلن، وعقد الصفقات المالية فى الخفاء، لتحريك المشروعات. وعندما تكون الأوقات الاقتصادية جيدةً، وهناك مزيد من الأموال، يكون هناك تباين ضئيل فى متغير مكافحة الفساد.
ومع ذلك، عندما بدأت الظروف الاقتصادية تتعقد فى أعقاب الأزمة المالية 2008- 2009 وتباطأ النمو خلال عامى 2011- 2012، أظهرت البرازيل والمكسيك وتركيا تراجعاً ملحوظاً فى مكافحة الفساد، نظراً لأن الفضائح الكبرى تكشفت وظهر مفهوم الفساد رفيع المستوى. وتتصاعد طبيعياً المنافسة السياسية تحت الظروف الاقتصادية الأكثر وطأةً، وتكون السلطة المدنية واعيةً جداً لسوء استخدام السلطة السياسية.
ومن غير المثير للدهشة، أن ترتبط الارتفاعات الهائلة فى متغير مكافحة الفساد ارتباطاً وثيقاً بالتحولات السياسية فى العديد من الحالات.
فعلى سبيل المثال، عندما تولى أردوغان السلطة عام 2003، اعتبره العديد من الأتراك، العلمانيين والمتحفظين على حدٍ سواء، وجهاً جديداً سيطهر تركيا، ويقتلع جذور شبكات المافيا وينعش الاقتصاد مرة أخرى.
ولكن بعد فترة، اختفى هذه المفهوم وارتفع تصنيف الفساد فى تركيا باستمرار، وفى الوقت ذاته، استخدم أردوغان طفرة النمو فى تركيا ليبنى سريعاً شبكة محسوبيته وتسليم العقود لمواليه السياسيين وتهميش خصومه.
وبمجرد أن بدأت الأخبار تتسرب بشأن حجم الفساد الذى ظهر خلال فترة ولايته، لم يبال أردوغان بمحاولة تبرئة نفسه من خلال إطلاق حملة جديدة لمكافحة الفساد، وبدلاً من ذلك، رفض تغيير منهجه، واعداً بمنح مزيد من المزايا لهؤلاء الذين ظلوا موالين له.
وتبدو التقلبات فى متغير مكافحة الفساد فى إندونيسيا مرآة لتحولات سياسية مهمة فى أواخر تسعينيات القرن الماضى وأوائل الألفية الثالثة، وانتهى الحكم الدكتاتورى لسوهارتو عام 1998، وبُذلت جهود جديدة لفك شبكة محسوبيته المترابطة والمتماسكة بقوة والممتدة من القوات المسلحة إلى فئة كبيرة من الرأسماليين.
وارتطمت إندونيسيا بالعديد من العقبات الضخمة فى ظل مساعى الحكومات المتعاقبة لتبنى برامج مكافحة الفساد، ولكن جماعات المصالح الأكثر رسوخاً كانت تعيق هذه الجهود من الداخل، وفى الواقع، بعد أن أصبح نظام الحكم فى إندونيسيا بعد سوهارتو لامركزياً على نحو أكبر، اتخذ الفساد شكلاً جديداً، نظراً إلى أن المستويات الإضافية من القواعد التنظيمية على المستوى المحلى خلقت مساحةً أكبر للرشوة.
وعلى صعيد آخر، يبدو أن ترتيب الهند فى مؤشر الفساد أكثر تأثراً بالتحولات السياسية، إذ ألحق عدد كبير من فضائح الفساد الكبرى، التى تضمن قطاع الفحم والاتصالات والسكك الحديدة والفضاء والدفاع والبناء، ضرراً كبيراً بحزب المؤتمر الوطنى الهندي، وتراجع تصنيف مكافحة الفساد فى الهند باستمرار خلال تلك الفترة.
واستخدم حزب «بهارتيا جاناتا»، عندما كان فى المعارضة، هذه الفضائح لتشويه حزب المؤتمر الهندي.
ولكن يتورط حزب «بهارتيا جاناتا» الآن فى فضيحة فساد التلاعب بالنتائج فى دورى الكريكيت الهندي، وفضيحة دفع رشاوى لوضع الطلاب فى أفضل المدارس والوظائف الحكومية.
وتتراجع بالفعل شعبية حزب «آم آدمي» المناهض للفساد، الذى أطاح بحزب «بهارتيا جاناتا» فى انتخابات ولاية دلهي، وربما تعد السياسة فى الهند غارقةً جداً فى الفساد للحد الذى يتطلب تبنى منهج لمكافحة الفساد فى هذه المرحلة من التطور.
وتعتبر الصين قصة أكثر تعقيداً، فيبدو أن القادة الحاليين فى الصين على دراية فى وقت مبكر بأن النمو السريع فى البلاد قد يعرض مصداقية الحزب للخطر، ويدرك الرئيس الصيني، «شي»، جيداً التاريخ الطويل من دورات الأسر الحاكمة فى بلاده، بدءاً من السلطة المركزية والتوحيد، وتلاشى الحكم الملكى جراء فساد البيروقراطية، ومناشدة الإصلاح التى جاءت بعد فوات الأوان والاختفاء الحتمى للسلالة. ونظراً إلى أن الرئيس الصينى عالق الآن فى آلام التباطؤ الاقتصادي، ولايزال متخلفاً جداً عن عدد من الاصلاحات المهمة لإعادة التوازن للاقتصاد، إذ يركز «شي» على الحاجة إلى تعزيز سيطرة حكمه، فى حين يعمل على إصلاح مصداقية الحزب من خلال حملة مكافحة الفساد الأكثر شراسة منذ الثورة الماوية فى الصين.
ويبدو أن الارتفاع الهائل فى تصنيف مكافحة الفساد فى الصين يتماشى على نحو كبير مع إطلاق «شي» حملة مكافحة الفساد، ولكن يبدو، أيضاً، أن نمطها لا يتغير.
ورغم أن حملة «شي» جادة، فإن قدرته على تنفيذ الإصلاحات ما زالت موضع شك، فعندما ينتاب المسئولين خوف شديد من اتخاذ القرارات، يتجنبونها جميعاً، وتُهمل الإصلاحات.
ويبقى لنا أن نرى ما إذا كان «شي» قادراً على تجنب المفارقة التاريخية لإصلاح مكافحة الفساد الذى يعجل بالتدهور السياسى فى الصين.
دور اللاعبين الخارجيين
فى حالات أخرى، تتعزز مجهودات مكافحة الفساد ليس بسبب الدورات الاقتصادية بقدر ما هو بسبب أجندات القوى الخارجية الأكبر، التى تسيطر على دول صغيرة فى نطاق نفوذها.
وفى أوكرانيا، لم يكن لينجح المحتجون الذين تحملوا البرد فى ميدان الاستقلال لأسابيع، أملاً فى الإطاحة بالرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، لولا دعم وكالات استخبارات غربية محددة لهم، والتى تهتم بالضغط على روسيا فى أكثر المناطق حساسية فى حيز نفوذها.
وفى مولدوفا، يواجه ائتلاف هش للغاية من الأحزاب الموالية للاتحاد الأوروبية غضب المحتجين (المدعومين فى معظمهم من روسيا) بشأن فضيحة فساد كبرى، يمكن أن تطيح بالحكومة وتقدم لموسكو أرض معركة بالوكالة جديدة مع الغرب. ولا يوجد تفسير بسيط ينتج من تحليل محركات الفساد والقوى التى تتسبب فى استغلال السلطة السياسية.
وفى بعض الحالات، لا تتعدى مبادرات مكافحة الفساد مجرد حملات سياسية تختفى خلال عام أو عامين، وفى بعض الأحيان يكون الفساد مستشرياً لدرجة أن بعض التغييرات السياسية والاقتصادية لا يكون لها تأثير كبير على تصنيف الدولة. وبالنسبة للعديد من الدول، يعد الانفجار فى الآونة الأخيرة فى عدد فضائح الرشاوى نتاجاً طبيعياً للنمو غير المسبوق على مدار أكثر من 10 سنوات، ويُظهر اتجاهاً متنامياً، ولكن أقل وضوحاً أن الدول التى تعيش فى ظلال قوى أكبر تكون الأكثر احتمالية أن تدخل فى احتجاجات مناهضة للفساد، وفى تحقيقات تقود فى النهاية إلى أهداف جيوسياسية أكبر.