أمضى عبد النصير أكثر من شهر للتسلل عبر الحدود الأفغانية والإيرانية للوصول إلى مدينة قسم التركية تلك المدينة الساحلية التى لا يفصلها عن اليونان سوى مسافة يسهل اجتيازها بالسباحة. ولكن مع شعوره، وهو يبلغ من العمر 22 عامًا، بالبرد القارس، بدت بضع مئات الأمتار الأخيرة مستحيلة تقريبًا، وكانت المياه باردة، والرياح قوية، فضلاً عن أنه لم يجد المهرب الذى دفع له 800 دولار للحصول على مكان على متن أحد القوراب.
وقال عبد النصير إنه مضى أسبوعا منذ أن ترك 40 مهاجرًا ممن يمتطون القوارب المطاطية، التى أصبحت الوسيلة الأساسية للانتقال للاتحاد الأوروبي، شاطئ المدينة التركية، فقد كان هناك حوالى 1200 على الشاطئ وقتها، منهم من كان يقوم بحرق القمامة بحثًا عن الدفء.
وفى الأسابيع التى تلت توقيع تركيا اتفاقًا مبدئيًا مع الاتحاد الأوروبى للمساعدة فى إدارة تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وجدت العصابات التى تنفذ معظم، إن لم يكن كل، عمليات التهريب فى تركيا نفسها لأول مرة، تحت ضغوط متواصلة من الشرطة.
وقال هيميت أيجون، الذى يرأس إدارة سياسات الهجرة بمحافظة أزمير، «تم القبض على ما يقرب من 800 شخص و450 من المجرمين، ونحن لم نتعامل مع أى شيء مثل هذا من قبل، إنها خطوة للتعلم، والآن نحن نتخذ إجراءات صارمة، وهم يعرفون – إذا ارتكبوا مثل هذه الأعمال، سيتم القبض عليهم».
ورغم التأثير الواضح والفورى لتلك الإجراءات الصارمة فى أماكن مثل مدينة قسم التركية، تراجع بالكاد التدفق اليومى للمهاجرين إلى اليونان، ومن المعلوم أنه وصل 40 ألف مهاجر تقريبًا خلال العشرة أيام الأولى من شهر ديسمبر وحده إلى اليونان، وبعد حالة من التراجع الأولي، عادت نسبة المهاجرين الواصلين إلى الشواطئ اليونانية إلى مستوياتها القياسية خلال الشهر الماضي.
كشفت عدة مقابلات مع ما يقرب من عشرة أشخاص، متورطين فى عمليات تهريب، النقاب عن مرونة تلك التجارة المربحة وسرعة تكيفها ومدى الصعوبة التى ستواجهها تركيا لكبح جماحها تمامًا.
وفى هذا السياق، وصف أحد المهربين، أثناء جلوسه فى مقهى مزدحم فى اسطنبول، حياته السابقة كجراح فى سوريا، وفشله فى عبور بحر إيجه، ظل بمائه لمدة 12 ساعة، قبل أن ينقذه خفر السواحل التركية.
وتجدر الإشارة إلى أن اثنين من الدبلوماسيين الغربيين أوضحا أن «الدكتور»، المشهور بهذا الاسم ضمن شبكات التهريب، مطلوب من قبل الشرطة الأوروبية، لكونه يدير واحدة من أكبر مجموعات التهريب بتركيا، ومن المفارقة أنه فى ذلك المساء، كان يخطط لنقل ما لا يقل عن 15 قاربًا من اللاجئين، ولكنه نجح فى إرسال أربعة فقط.
وبعد إظهار، «الدكتور»، صورة لسفينة، طولها 232 مترا، والذى كان قد دفع مقدمتها الأولى نقدًا بحوالى 1.5 مليون دولار، أوضح أنه يعتزم استخدامها لنقل ما يقرب من 400 مهاجر على متنها فى كل مرة، من مدينة مرسين الساحلية التركية، فى رحلة مدتها أربعة أو خمسة أيام إلى نقطة إنزال بإيطاليا؛ حيث الصيادين سيقتادون اللاجئين الكيلومترات القليلة الأخيرة.
وهناك مهرب سورى آخر، يُشتهر باسم «رجل العضلات»، وكان حتى وقت قريب، يرسل ما لا يقل عن سفينة محملة باللاجئين إلى اليونان كل ليلة، فقبل ستة أشهر، زاره أحد الرجال المسلحين مطالبًا إياه بدفع 40 ألف دولار شهريًا للمافيا، وقد قبل الأمر لاستمرار تجارته.
ويضيف قائلاً: «منذ شهر، ارتفع السعر بحوالى ألف دولار كمبلغ إضافى عن كل شخص يستقل كل زورق، وفى النهاية تخليت عن هذا الأمر».
وبدروه يؤكد أن 20 على الأقل من العاملين تلك التجارة، قد تخلوا عنها أيضًا.
كما أن أحد مستوردى القوراب فى اسطنبول واجه صعوبات مماثلة، فبعد أن ازدهرت تجارته، زاره رجلان من الأتراك، فى سيارة فاخرة سوداء، بمنزله فى أواخر أكتوبر، وهدداه بقتله ما لم يوقف عمله.
وعلم هذا الشخص فى وقت لاحق من أصدقائه المهربين أن المافيا التركية أصبحت أكبر مصدر للقوارب، وقد بين آخرون أن تلك الجماعات التى تدفع للمافيا بإمكانها شراء زوارق من مصنع صغير خارج أنقرة بحوالى 400 دولار، فى حين أن هناك آخرين يدفعون ما يصل الى 6000 دولار للسفن الصغيرة، وأضافوا أنه من الصعب الحصول على السفن المستوردة.
ويتضح جليًا أن هناك دعمًا اتفاقيًا تقدمه المافيا بداية من مشغلى تلك التجارة، خلال فترة قصيرة، إلى الجماعات الممولة فى مدينة قسم التركية.
ولم يمض سوى عشرة أيام على الشاطئ، حتى ظهرت مجموعة جديدة للتهريب وعرضت نقل اللاجئين عبر المياه بسعر جديد وهو ألف دولار.