بقلم د. أحمد عبد الجواد
تطُـُل علينا يوماً بعد يوم فى الآونة الأخيرة الدعوة إلى الشمول المالى كمنهج وثقافة مُجتمعية يجب التوجه اليها لدعم المجتمعات النامية والاقتصاديات الناشئة والمُتحولة، وتنبع أهمية، بل حتمية نشر هذا الفكر فى تحقيق ضبط الأداء المالى للوحدات الاقتصادية الميكروية فى الاقتصاد الوطنى من خلال إدماجها تدريجياً فى قطاعات الاقتصاد الحقيقى التى تؤثر فعلياً فى الناتج المحلى الاجمالى للدولة.
وتعدُ أهم الفئات المستهدفة من ثقافة الشمول المالى المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر فى القطاعات الاقتصادية المختلفة والتى يمثل استقطابها الايجابى التحدى الحقيقى لنجاح هذه الدعوة على مستوى الدولة، وتتمثل أهم مُحفزات الاستقطاب فى مصادر التمويل التى تدعُم متطلبات النشأة والبقاء والاستمرارية لهذه الوحدات فيما يسمى بتمويل مرحلة «البناء المؤسسى الاستراتيجى» لها، ومن ثم ترسيخ الوجود الاقتصادى الرسمى بالدولة.
ومما لا شك فيه أن محدودية الموارد المالية وجفاف قنوات التمويل الذاتية مع مرور الوقت من شأنه أن يصيب هذه الوحدات بظاهرة الضمور الاقتصادى التى تؤدى بها إلى الزوال المادى أو الانحراف عن حدود المجتمع المالى الرسمى، وفى هذه الأجواء يبرز التمويل الإسلامي كأحد أهم أَطواق النجاة من هذه الظاهرة للمرونة العالية التى تتسم بها الصيغ التمويلية فى تلبية الاحتياجات التمويلية للعديد من القطاعات الاقتصادية.
فَعَلَى نطاق القطاع التجارى والصناعى، نجد صيغة المُرَابَحَة من خلال آلية الوعد بالشراء من الوحدة الاقتصادية، والوعد بالبيع من جهة التمويل تحقق ضماناً لجدية تنفيذ الصفقات مما يبعث على الاطمئنان لمُتخذى القرار بالمشروع وجهة التمويل نحو إتمام عمليات التمويل المُرتهنة بعمليات استثمارية تُسفر عن عمليات تشغيلية قادرة على السداد والوفاء بالالتزامات، كما تُعزز صيغة المُشاركة بطبيعتها من إمكانية التمويل للمشروعات الجديدة والقائمة بما يساعد فى اشراك جميع الفئات الحالية والمستقبلية فى ممارسات الشمول المالى، فضلاً عما تقدمه على نطاق القطاع الخدمى من دعم زمنى على مدار حياة المشروع بتطبيق آليات المُشاركة المؤقتة والمتناقصة والدائمة، مما يسمح بتوفير التمويل لقطاعات مُتخصصة مثل المقاولات الصغيرة بالمُشاركة فى تنفيذ كل عملية على حدة، ومن ثم تخفيف العبء التمويلى على صاحب المشروع فى البداية والحفاظ على السلامة المالية للمشروع فى تسويات التزامات التمويل بنهاية العملية بالتخارج التدريجى الذى يُلائم موقف التدفقات النقدية للمشروع.
وتقفز بنا صيغة المُضارَبَة إلى مستوى دعم قوى لتمويل قطاع الحرفيين والصناعات الصغيرة بجانب قطاع التجارة، نظراً لما تعُليه هذه الصيغة من وزن الخبرة الفنية والمهارات المهنية لرب العمل من أصحاب المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر فى العملية التمويلية، خاصة وهى مؤمنة بآلية المُضاربة المُطلقة أو المُقيدة وفقاً لحجم الثقة بين أطراف العملية.
بينما تُمثل صيغتا الْمُزَارَعَةُ والْمُسَاقَاة تجريداً واقعياً لما تحتاجه المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر الزراعية من أدوات تمويلية ملائمة لخدمة المزارعين المستأجرين للأراضى أو القائمين على رعاية الزرع والمحاصيل مقابل أجور بسيطة فترتقى بهم إلى مصاف المُشاركة فى الإنتاجية الزراعية، ومن ثم تعظيم الاستفادة المالية دون الإخلال بحقوق الغير، بل تعضد من استدامة هذه الفئات فى ممارسة أنشطتهم على نطاق أوسع فى كل دورة زراعية.
هذا وتستمر عقود البيوع المظلة الواسعة والنبع المتدفق لصيغ تمويلية اسلامية معاصرة تتلاءم مع جميع احتياجات المجتمع الاقتصادى بمختلف شرائحه، فها هى صيغة الإجارة تُقدم بيعاً لمنافع الأصول المختلفة لصالح شرائح غير القادرين على التملك فتخفف من عبء توفير الدفعة المقدمة ومن نسبة المساهمة الذاتية المطلوبة فى الأصول الإنتاجية للمشروع الصغير ومتناهى الصغر من خلال تيسيرات التأجير التشغيلى والتمليكى التى تُتيح خيارات الاستفادة المختلفة للمشروع دون ضغوط ومتطلبات التمويل التقليدى.
وينتقل بنا بيع السَّلَم إلى درجة متقدمة من التمويل المُبكر لصاحب المشروع الصغير أو متناهى الصغر عندما يطبق آلية بيع عاجل بآجل أى بما يتيح الدفع المُقدم مقابل تنفيذ المنتج أو الخدمة بمواصفات محددة ووقت معلوم، وهو ما يقلل بدرجة كبيرة جداً الاعتماد على موارد ذاتية ثابتة فى المشروع.
وفضلاً عما تقدم، فإن صيغ التمويل الإسلامى فى إطار ما تحمله من مشروعية وفقهية اتمام المعاملات الاقتصادية تضمن لواضعى السياسات وصانعى النُظم المالية بالسوق تحقيق الاحتواء الكامل لجميع رغبات التمويل من شرائح المشروعات المختلفة الصغيرة ومتناهية الصغر والتى يمثل لها الاندماج مع المجتمع المالى الرسمى، وخاصة المصارف نوعاً من الاضطراب الشرعى، ومن ثم فإن تحفيز النمو فى تطبيقات صيغ التمويل الإسلامى يُعد قراءة عميقة لثقافة السواد الأعظم من الفئات المستهدفة لمنظومة الشمول المالى، بما يساعد فى فعاليتها كمنهجية مجتمعية معاصرة.