فى العام 1988 احتوى تقرير للجنة الأمريكية للبورصات والأوراق المالية على مفاجأة غير متوقعة.
وصل التقرير إلى مكتب نايثان موست فى بورصة “أميكس” الأمريكية فى فبراير من عام 1988، بعد أربعة أشهر من الصدمة التى تعرض لها وول ستريت عندما انهار مؤشر داو جونز الصناعى بمقدار 508 نقطة أو 22% فى اليوم المعروف بالاثنين الأسود الذى شهد أكبر تراجع يومى فى التاريخ.
ويسمى هذا التقرير الذى يزن خمسة أرطال، بـ”انهيار السوق فى أكتوبر 1987″، وهو تفسير اللجنة الأمريكية لأسباب الواقعة.
وكان موست، المخضرم فى أسواق المال والبالغ من العمر 74 عاما، نائب رئيس بورصة “آميكس” التى كانت فى يوم من الأيام سوقاً كبيراً تأتى مباشرة بعد بورصتى نيويورك وناسداك من حيث حجم تداول الأسهم.
ولكن فى أواخر الثمانينيات، لم يبق سوى عدد يعد على الأصابع من شركات مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” مدرجة فى “آميكس”، ويقول ستيفين بلوم، والذى كان خريجاً حديثاً من هارفارد وعمل بجانب موست فى “أميكس”: “لم نكن فى ذلك الوقت الأوائل فى أى شىء على الإطلاق”.
وتقل وكالة بلومبرج فى التقرير الذى نشرته الأسبوع الحالى حول قصة صناديق المؤشرات، إنه فى أعقاب يوم الاثنين الأسود، طلب آرثر ليفيت، رئيس “آميكس”، من موست وبلوم ابتكار منتج “فائز” بإمكانه جذب المؤسسات الاستثمارية، ومساعدة بورصتهم على البقاء فى السوق.
وقرأ موست وبلوم تقرير اللجنة بالكامل خلال أيام قليلة، ما أكسبهم رؤية جديدة بشأن أسباب انهيار السوق، بالإضافة إلى العوامل التى تسببت فى مفاقمة البيع.
وأشار التقرير إلى أن الجناة هم التداول الآلى باستخدام برامج الحاسب، والتأمين على المحافظ الاستثمارية، وكان الكثير من المؤسسات الاستثمارية قد بدأت استخدام التأمين على المحافظ، وهى استراتيجية تتضمن بيع العقود الآجلة لمؤشرات الأسهم بمجرد تراجع السوق بنسبة معينة، ما يسمح لها بتحويط كمية كبيرة من الأسهم التى جمعتها.
وعندما بدأت أسعار الأسهم تتراجع يوم الاثنين الأسود، باعت المؤسسات هذه العقود الآجلة، ما تسبب فى زيادة عدد البائعين على عدد الراغبين فى الشراء زيادة كاسحة، وهذا تسبب فى تداول العقود الآجلة بأسعار أقل من الأسهم التى تمثلها، ما دفع بدوره برامج التداول الآلى إلى بيع الأسهم التى تشكل العقود الآجلة، وعمت الفوضى، وانتقلت موجة البيع والتقلبات فى سوق العقود الآجلة إلى الأسهم الفردية، ما أثار الفزع، وعزز موجة البيع.
وجذب جزء معين فى الفصل الثالث من التقرير انتباه بلوم، وفى هذا الفصل اقترحت اللجنة التى أعدت التقرير “نهجاً بديلاً” يفترض استخدام “منتج” منفرد لتداول سلة من الأسهم، والذى كان من الممكن أن يجعل الضرر أصغر بكثير من خلال توفير حاجز من السيولة بين سوق العقود الآجلة والأسهم الفردية.
ويقول بلوم: “فى هذه اللحظة توجهت إلى مكتب موست، وقلت له: هنا المخرج الذى نبحث عنه”.
وتقول “بلومبرج” إن ما تمت الإشارة إليه فى تقرير لجنة الأوراق المالية على أنها منتجات لتداول سلة من الأسهم، نطلق عليه اليوم صناديق المؤشرات، والتى تحولت إلى قطاع عالمى بقيمة 3 تريليونات دولار، ويحتوى على 6780 منتجاً فى 60 بورصة.
وفى الولايات المتحدة العام الماضى، تداولت صناديق المؤشرات أسهما وصلت قيمتها حوالى 20 تريليون دولار، أى أكبر من الناتج المحلى الإجمالى للدولة، وتسمح تلك الصناديق للأفراد بالاستثمار فى جميع فئات الأصول التى يمكن أن يفكروا فيها، ولائحة منتجاتهم تمتد من “TAN” الذى يتتبع أسهم الطاقة الشمسية، إلى “SVXY” الذى يستثمر فى أسهم لا يتضمنها مؤشر التقلبات “VIX”.
ولكن، رغم سحرها، تمثل صناديق المؤشرات قلقا متزايدا للمشرعين، فيوم 24 أغسطس الماضى على سبيل المثال، تراجع مؤشر “ستاندرد آند بورز” بنسبة 5.3% فى الدقائق الأولى من التداول، وكان أسوأ يوم للسوق منذ 4 سنوات، و80% من الـ 1278 سهماً التى علقت التداول بسبب تراجع سعرها، تضمنت وثائق صناديق مؤشرات، وفقا للجنة الأمريكية للبورصة والأوراق المالية.
وفى الأيام العادية، تشكل وثائق صناديق المؤشرات حوالى 25% من حجم تداول الأسهم، وفى ذلك اليوم شكلت حوالى 40%، وفى الشهور اللاحقة، نشرت اللجنة الأمريكية مذكرة بحثية بشأن تقلبات ذلك اليوم، واقترحت قواعد جديدة لتحسين السيولة، وللحد من المشتقات فى وثائق بعينها، وأوضحت أن المزيد من الإشراف لن يضر القطاع المالى، وقالت رئيس اللجنة، مارى جو وايت، إنهم “يركزون جيدا على وثائق صناديق المؤشرات”.
وفى الوقت الذى كان يحاول موست وبلوم اكتشاف المنتج “الفائز” طالبت اللجنة الأمريكية بنفسها أن يتم خلق صناديق المؤشرات.
ويقول ديفيد رودر، استاذ القانون فى جامعة “نورث ويسترن”، والذى ترأس لجنة البورصة والأوراق المالية من 1987 إلى 1989: “إن النظرية التى قدمتها اللجنة تتمثل فى إمكانية تأسيس سلات من الأسهم الرئيسية المتاحة للبيع، والتى يمكن بيعها فيما بعد دون التسبب فى انهيار كبير فى السوق، ولكنه كان مجرد اقتراح، لم تتوقع اللجنة أن ينفذه أحد مباشرة”.
ويتذكر بلوم تفصيلاً آخر فى التقرير لاحظه هو وموست ألا وهو أن اللجنة أوضحت أن أى أحد يريد أن يدير مثل هذا المنتج، ستعطيه اللجنة موافقتها سريعا.
وكانت إحدى أفكارهم المبكرة معرفة إذا كانت صناديق الاستثمار المشترك التى تتبع مؤشرات، بوضعها السابق، يمكن أن تتداول أم لا، ولم يجد موست شخصا أفضل من جون جاك بوجل، المؤسس المشترك لصندوق “فانجارد”، والرائد فى عملية معادلة الأوزان النسبية للأسهم داخل المحفظة الاستثمارية حسب أوزانها فى المؤشر الذى تتبعه المحفظة.
وقال بوجل لوكالة “بلومبرج”، ويبلغ من العمر 86 عاما: “أتذكر دخول موست إلى مكتبى عندما كنت أدير المكان، وقال إنه يريد أن نتشارك، ونستخدم صندوق المؤشرات الخاص بشركتنا والذى يتتبع “ستاندرد آند بورز”.
وقال له بوجل، إن الفكرة بها عيوب كثيرة، وحتى إن اصلحها فهو غير مهتم بمشاركته، ولا يتذكر بوجل تفاصيل انتقاده للفكرة، ولكنه يتذكر العيب العام: فهو لم تعجبه فكرة دخول وخروج المستثمرين من صندوقه لأن ذلك سيرفع تكاليف التشغيل بقدر كبير.
وقال موست فيما بعد لشركة “ماركت ووتش” التى تقدم أحدث البيانات عن الأسواق المالية، إن مقابلته مع بوجل جعلته يفكر فى منتج لا يتطلب دخول وخروج المستثمرين من الصندوق طوال الوقت، وأراد هو وبلوم إيجاد طريقة تسمح للأشخاص بتداول وثيقة خلال الجلسات دون رفع التكاليف، وهى طريقة ستميز عمليات الصندوق عن التداول العادى فى السوق.
وأخيراً، وجد موست، الذى درس الفيزياء فى جامعة كاليفورنيا، طريقة استلهمها من فترة عمله فى تداول السلع فى البداية كسمسار ثم كرئيس لشركة “باسيفيك” لتداول السلع، وحسبما يعرف موست، تتم عادة تخزين السلع فى مخازن، والتى تصدر بدورها وثائق يمكن تداولها.
ويقول جيم ويانديت، مؤسس موقع “ETF.com”: “عندما تقوم بتخزين السلعة، تحصل على وثيقة من المخزن، ويمكنك بيعها، وفعل أى شيء بها دون الحاجة إلى التنقل مجيئاً وذهابا بالسلعة طوال الوقت، وبالتالى فأنت تتركها فى مكان وتقوم ببساطة بتحويل وثيقة المخزن”.
وتساءل موست وبلوم كيف يمكن تطبيق نفس الفكرة على سلة من الأسهم، بحيث يكون لديك سلة من الأسهم تعهد بهم إلى متعهد وتحصل فى المقابل على أسهم، وهذه الأسهم يمكن فصلها وبيعها فى بورصة، أو أن تشترى أسهما من البورصة وتسلمها إلى المخزن أو المتعهد لتحصل فى المقابل على سلة من الأسهم.
وتسمح هذه الطريقة للأشخاص بتداول أسهمهم بقدر ما يشاؤون دون أى مشكلات لنظام الأوراق المالية الإلكترونى لدى مخزن المتعهد، وبدون رفع تكاليف التداول على المستثمرين فى الصندوق.
وتقول كاثلين موريارتى، شريك فى “كاى شولر” للمحاماة التى قدمت المشورة القانونية لأميكس فى ذلك الوقت: “إن العملية العينية تلك لإنشاء سلة أو استرداد الأسهم منها أزالت مخاوف بوجل المتعلقة بالمعاملات اليومية، كما أنها خفضت التكاليف بمقدار 50 نقطة أساس، ما يعد مكسبا كبيرا”.
وأضافت موريارتى أن لهذا الهيكل فواد ضريبية كبيرة ايضا لأن الأمر لا ينطوى على نقدية عند إنشاء السلة او استرداد اسهمها، وبالتالى لن يؤدى المنتج إلى توزيع لمكاسب رأس المال مثلما تفعل صناديق الاستثمار المشترك.
وتطلبت فكرة موست وبلوم مخزن افتراضى لتخزين الأسهم، لذا شكلوا فريقا مع شركة “ستايت ستريت” باعتباره مخزنا أو صندوقاً متعهداً، كما أرادوا مؤشرا ليتتبعوه، واتفقوا على “ستاندرد آند بورز”، الأكثر تتبعاً من قبل المؤسسات الاستثمارية.
ولم يكن الحصول على موافقة اللجنة الأمريكية للبورصة والأوراق المالية سهلا، لأنهم أرادوا أن تعكس ممتلكات المنتج التحركات اليومية فى المؤشر، وأخبرهم محاموهم أن ذلك سيتطلب تأسيس شركة ينظمها قانون الشركات الاستثمارية، وهذا يعنى خضوعهم لأشد أنواع التدقيق من قبل اللجنة الأمريكية.
وقدم بلوم وموست طلب التأسيس للجنة الأمريكية فى 1989، ويقول هوارد كريمر، العامل فى قسم تنظيم السوق فى اللجنة، والذى ساعد فى إعداد تقرير “انهيار السوق فى اكتوبر 1987″، إنه يتذكر تفاصيل الطلب، وإنه ادرك سريعا أن موست وبلوم طورا الفكرة المبدئية للجنة إلى شيء جديد تماما ومختلف.
وشعر الكثيرون فى اللجنة بالقلق من السماح لما بدا مثل صندوق استثمار مشترك بالتداول فى البورصة، ويقول كرامر: “كانت مهمتى تحليل المقترح وتمريره عبر لجنة للموافقة عليه”.
وانطلاقا من شعور كرامر بأن هذا المنتج سيكون ثورياً وسيستفيد منه مستثمرو التجزئة ضغط لصالح الموافقة عليه فى كل مرحلة من المراحل واستغرقت عملية الموافقة عليه 4 سنوات.
ووافقت اللجنة أخيرا على منتج أميكس فى يناير 1993، وقرر موست وبلوم تسمية منتجهما وثائق ستاندرد آند بورز الإيداعية أو “SPDRs”، وكانت مثلها مثل مخازن السلع تماما، حيث يوجد “وثائق” قائمة على “وديعة”، واطلقوا على الوثيقة “سباى SPY”.
وفى اليوم الأول تداولت وئائق المؤشرات مليون سهم، وهو نجاح معقول، ولكن زهوة حداثة المنتج بدأت تقل تدريجيا، وتراجع حجم التداول يوما عن يوما، وبحلول يونيو، تقلص عدد الأسهم المتداولة يوميا إلى 18 ألف سهم، ما أثار الشكوك فى قلب جيمس روس، المدير العالمى لأعمال صناديق المؤشرات فى “ستايت ستريت”، خاصة عندما انزلقت الأصول تحت الإدارة من 641 مليون دولار فى 1994 إلى 419 مليون دولار فى 1995.
ولكن بالأخير، ذاع صيت وثيقة “سباي” مثلها كمثل أى منتج ناجح، وقف وراءه مؤمنين حقيقيين به، مثل جارى أيسنريتش، مختص فى “سبير ليدج اند كيلوج” لتوفير السيولة، وقال أيسنريتش: “نظرت إلى وثائق ستاندرد آند بورز الإيداعية كوسيلة أستطيع بها بيع أى شىء حتى وإن كانت جدتى”.
وساعدت موجة ارتفاع فى سوق الأسهم “سباي” على العودة إلى النجاح، وبحلول 1998، قفزت قيمة الوثائق بنسبة 160%، وأصبح لديها أصول تحت الإدارة بقيمة 12 مليار دولار.
واليوم، تعد “سباي” الورقة المالية الاكثر تداولاً فى العالم، ويصل حجم التداول عليها 25 مليار دولار يوميا أو 6 تريليونات سنويا، أى بما يعادل أربعة أضعاف تداول سهم “آبل” ثانى أكبر ورقة مالية من حيث التداول، وفى الواقع يتم تداول “سباي” بنفس قدر أكثر 24 سهماً تداولا مجتمعة، كما أنها تشكل 50 مليار دولار من قيمة العقود الآجلة التى يتم تدولها يوميا، وهو ما يقترب من 50% من سوق خيارات الأسهم بأكمله.
وبالنسبة لأميكس حققت “سباي” نجاحاً غير مسبوق وقال الكثيرون فى عام 2000 إنها انقذت البورصة، نظراً لأن الوثائق تخفف الضغط على الأسهم الفردية، لأن الأغلبية العظمى منها يتم تداولها فى السوق الثانوى ولا تتضمن إنشاء سلات أو استرداد باستخدام الأسهم الأساسية، ما يعمل بالتأكيد كحاجز من السيولة.
والجانب المذهل أيضا من وثائق صناديق المؤشرات أنها بديل لصناديق الاستثمار المشترك، وصناديق التحوط، وحتى الحسابات المدارة بشكل منفصل، كما أنها أداة يستخدمونها جميعها.
ورغم أن المؤسسات الاستثمارية هى أول من استخدم وثائق صناديق المؤشرات، فإن معظم النمو فى الآونة الأخيرة جاء من المستشارين ومستثمرى التجزئة، لدرجة أن أصول تلك الصناديق تنقسم بالتساوى تقريبا بين المؤسسات الاستثمارية ومستثمرى التجزئة.
ولكن نما سوق صناديق المؤشرات بأكثر مما تخيلت اللجنة الأمريكية للأوراق المالية، خاصة مع توسعها فى فئات أصول مثل الدخل الثابت والسلع، وقال رودر، المدير السابق للجنة الأمريكية: “لا أعتقد أننا توقعنا عندما كتبنا التقرير أن استخدام سلات الأسهم سيكون منتشراً بهذا القدر، واعتقد أننا رأينا السلات كطريقة لتخفيف مشكلات التقلبات، كما أن نوع السلات الذى كنا نتحدث عنه لم يكن يحتوى غير الأسهم”.
ولم يتوقع أحد حتى المنخرطين فى الأيام الأولى من إطلاقها، أنها ستلقى هذا النجاح، ومن المدهش أيضا رغم أن اللجنة الأمريكية نفسها ساعدت فى إشعال الفكرة كحل لتقليل التقلبات فى الأسواق، فهى من سوف تقلق يوما ما من أن تكون وثائق المؤشرات ستمثل تهديدا للأسواق.
وبالفعل أذهل نجاح الأداة الاستثمارية بلوم نفسه أكثر من الجميع، وقال: “ما بدأ كمنتج، تحول إلى قطاع”.