بقلم: دانيال جروس
أعلنت الصين مؤخراً أنه للمرة الأولى منذ أن بدأت فتح اقتصادها على العالم نهاية السبعينيات، تراجعت صادراتها على أساس سنوى، ولكن هذا ليس كل شىء، فالتجارة العالمية، من حيث القيمة، هبطت فى 2015.
إذن فالسؤال الواضح هو: لماذا؟
فالتجارة العالمية تقلصت أيضاً فى 2009، وكان التفسير واضحاً وهو تقلص الناتج المحلى الإجمالى العالمى بحدة فى ذلك الوقت، ومع ذلك، فقد نما الاقتصاد العالمى بنسبة معقولة العام الماضى عند 3%، ولم ترتفع الحواجز التجارية بشكل ملحوظ فى أى مكان، كما تراجعت تكاليف النقل نتيجة الهبوط الكبير فى أسعار البترول.
ومع ذلك، انخفض مؤشر البلطيق الجاف، الذى يتتبع تكلفة استئجار السفن الكبيرة التى تحمل شحنات إلى مسافات بعيدة، لأدنى مستوى له على الإطلاق، وهذا يشير إلى أن الأسواق لا تتوقع تعافياً، مما يعنى أن بيانات 2015 يمكن ان تكون تمهيداً لعصر جديد من التباطؤ التجارى، والنتيجة الواضحة هنا هى أن قوى العولمة التى كانت لا تقاوم فى وقت من الأوقات، بدأت تفقد زخمها.
وفى الواقع، تعد أسعار السلع مفتاحاً لفهم اتجاهات التجارة عبر العقود القليلة الماضية، فعندما تكون أسعارها مرتفعة، تدفع الحراك التجارى أكثر، بدرجة ترفع حصة التجارة من الناتج المحلى الإجمالى، وتؤجج الضجة حول التقدم الحتمى للعولمة، أما فى 2012، فبدأت أسعار السلع فى التراجع، وسحبت التجارة معها للأسفل.
واذا افترضنا أن طناً من الصلب، و10 براميل من البترول مطلوبة لصناعة سيارة واحدة، فإن تكلفة تلك الحزمة فى الفترة من 2002 إلى 2003، كانت حوالى 800 دولار أى حوالى 5% من قيمة السيارة البالغ سعرها 16 ألف دولار، وهذا يعنى أن خلال أوائل القرن الحالى، كانت تصدر الدول الصناعية 5 سيارات لكل 100 حزمة من تلك المواد الخام التى تستوردها.
وبحلول 2012-2013، ارتفعت قيمة المواد الخام المطلوبة لنفس السيارة إلى حوالى 2000 دولار، أى حوالى 10% من تكلفتها، (ولم ترتفع أسعار السيارات بنفس قدر المواد الخام)، وهو ما يعنى أن الدول الصناعية ينبغى عليها مضاعفة الصادرات، أى 10 سيارات مقابل نفس قدر الواردات من المواد الخام.
ومن الواضح وجود ارتباط مباشر بين اتجاهات التجارة وأسعار السلع، وبالنظر إلى أن هذا الارتباط يؤثر على جميع البضائع المصنعة التى تتطلب مدخلات من المواد الخام، فلا عجب إذن فى تراجع التجارة العالمية مع أسعار السلع.
وقد يجادل البعض بأن هذا المثال يتعلق فقط بقيمة التجارة، وأنه فى العقود الأخيرة، تجاوز النمو فى التجارة من حيث الحجم النمو الحقيقى فى الناتج المحلى الإجمالى، ولكن أسعار السلع تؤثر على أحجام التجارة أيضاً، لأن أسعار السلع الأعلى تجبر الدول الصناعية على زيادة حجم صادراتها، (مثلما أوضح مثال 10 سيارات بدلاً من 5)، لكى تغطى تكاليف استيراد نفس القدر من المواد الخام.
ونظراً لأن أسعار المواد الغذائية، والوقود، والمواد الخام تشكل حوالى ربع التجارة العالمية، فعندما تتقلب أسعارها – خصوصا بشدة كما حدث فى العقود الأخيرة – تتأثر أرقام التجارة الكلية بشكل واضح، ونظراً للانخفاض الهائل فى أسعار السلع مؤخراً، ليس هناك حاجة للبحث عن أى تفسير آخر للتباطؤ فى التجارة فى الآونة الأخيرة.
وهذا لا يعنى أن العولمة والتجارة شيئاً واحداً، فالأولى تنطوى على خصائص أخرى، بما فى ذلك الارتفاع فى المعاملات المالية عبر الحدود والسياحة، وتبادل البيانات، وغيرها من النشاطات الاقتصادية، وفى الواقع، فإن هذه التداخلات الأخرى أثرت على التجارة أيضاً، فقد تسببت فى ظهور سلاسل القيمة العالمية، حيث تتم خطوات مختلفة من الإنتاج فى دول مختلفة.
ولكن الصين هى الاستثناء الوحيد، لأن وضعها كمنصة لتجميع المنتجات من حول العالم، يعنى أنها استوردت معظم العناصر ذات أعلى قيمة مضافة، ولكن مع نضوج الهيكل الصناعى فى الدولة، فإن أجهزة «الآى فون» التى يتم تجميعها فى الصين حالياً، تحتوى على مكونات أكثر مصنوعة داخل الدولة مقارنة بسنوات قليلة ماضية، وبالتالى ستقترب من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى من حيث القيمة المضافة، وليس العكس، وهذا سبب آخر يوضح لماذا قد تتضاءل أهمية التجارة؟.
ومع ذلك، فإن هذه الظاهرة مبالع فى تقديرها، ووفقاً لمنظمة التجارة العالمية، فإن القيمة الأجنبية المضافة فى الصادرات لا تتعدى 15% بالنسبة لمعظم الاقتصادات الكبيرة، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، بمعنى آخر، سلاسل القيمة العالمية ليس لها تأثير كبير على هذه الاقتصادات التجارية الكبيرة، وعندما ينتشر شىء على نطاق واسع، يكون عادةً هناك سبب لذلك. وأصبح الاقتصاديون اليوم أكثر انفتاحاً مما كانوا عليه منذ جيل مضى، وأصبح من الواضح الآن أن فكرة أن العوملة قوة كاسحة لا ترحم، هى مجرد عرض جانبى لطفرة السلع فى العقد الماضى.
وإذا ظلت الأسعار منخفضة، كما هو مرجح، فإن العقد المقبل سيشهد ركوداً فى التجارة العالمية، فى الوقت الذى سيعيد فيه نمط التجارة «التوازن» من الدول الناشئة إلى القوى الصناعية الراسخة.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: موقع «بروجكت سينديكيت»