في ألمانيا تستقبلنا البيروقراطية في أصغر المعاملات وأكبرها، وبذلك ندرك الفرق بين ما اعتدناه من وساطة وتسيب ورشاوى في بلدنا وبين النظام البيروقراطي الشديد في ألمانيا الذي أجده روتينا قاتلا بسبب صرامته.
“هكذا يسير الوضع هنا”، “هذا ما يقوم به الجميع”، بهذه الكلمات كنا نبرر قبولنا وانخراطنا في الفساد ويبدو أن معاناتنا في الدوائر الحكومية لن تنتهي أينما ذهبنا، ففيما كنا نشتكي في بلادنا الفساد الذي ينخر في كافة المؤسسات، نشتكي هنا في ألمانيا شدة النظام، والفارق هو الظلم في الحالة الأولى والعدالة في الحالة الثانية.
ويلٌ لأمة لا تتعامل بالـ 25( بمعنى مبلغ الرشوة للموظف المعني) هذا ما أعتدت التفكير به كلما صادفتني إجراءات روتينية قانونية في ألمانيا. بصعوبة أخفي شوقي لحالات الفساد والرشوة التي طالما انتقدتها ولعنتها عندما كنت أعيش في سورية. إلا أنني أحن إليها كثيراً عندما أواجه بيروقراطية هذا البلد المتطور الذي يعمل بالأرقام والمواعيد والبريد الورقي والإلكتروني والتوقيع والتصريحات وغير ذلك… لم كل هذه الفوضى؟ وسيلة الـ 25 تحل أعقد مشكلة!
في سوريا بلغ الحال أني لم أضطر للذهاب إلى مكتب الهجرة للحصول على جواز السفر كما يجب، بل دفعت مبلغا معلوما من المال لما يعرف ب”معقّب معاملات “وبعد يومين فقط، حصلت على الجواز. حلول أسرع من الضوء. فالـ 25 ليس مجرد رقم عادي، إنه من أهم الشفرات الرسمية لحل أكبر مخالفة، ورمز لكل رشوة، مرتبط بمخالفات المرور تحديداً، إذ يتحول السائق إلى لاعب خفة ماهر بمجرد رؤية شرطي المرور، لإعطائه الـ 25 ليرة بحركة بسيطة لا تكاد تُلاحظ.
كلٌ له سعر، والمثير للسخرية، أن ترتفع هذه الأسعار مع ارتفاع اليورو والدولار، ولا تهبط بهبوطه.. في الواقع كل شيء يرتفع ثمنه مع اليورو والدولار، إلا الإنسان.. كان وما يزال في بلدنا بلا ثمن. في بلد أصبح فيه السلاح أرخص من كيلو البطاطا، أما الـ 25، فقد استُبدل برقم آخر ليواكب صعود وهبوط العملة الصعبة.
تجاربي الحلوة والمرة في الدوائر الرسمية ألألمانية
أذكر المرّة الأولى التي ذهبت فيها إلى مكتب البلدية في ألمانيا للتسجيل. كان ذلك بعد أن قمت بتحديد موعد عبر الانترنت. في ذلك المكتب، كان كل شيء مرتباً ونظيفاً بشكل ملفت، الطاولة منسقة، مساحة كافية، الأوراق منظمة، الملفات في المكتبة، نبتة خضراء جميلة قرب النافذة. لم أعلم ما هي وجبة الغداء التي ستقوم بتحضيرها تلك الموظفة لبيتها، فلم أرَ الخضار والمواد الغذائية على الطاولة، ولم أسمع مكالمتها الهاتفية الطويلة مع أمها.
استقبلتني بابتسامة لطيفة رُسمت على وجهها مع كلمة “أهلاً” تفضلي بالجلوس. انتهينا من عملنا خلال دقائق فقط، لم أكن بحاجة لأن أعرف ابن خال هذه الموظفة لتسريع التسجيل، ولم أحتج أن أدفع (25)، كي لا تجعلني أنتظر خارج المكتب، أو أن أبحث عنها من مكتب لآخر في بناء البلدية، وفوق ذلك لم تطلب طوابع من مديرية الزراعة، أو الكهرباء أو المريخ، لإنهاء المعاملة. تذكرت في تلك اللحظة، كيف أنني قد أمضيت شهراً كاملاً، جيئة وذهاباً، يومياً، لمتابعة تجديد بطاقتي الشخصية في سورية. وأكاد لا أذكر كل الذرائع والحجج التي أخبرني بها ذلك الموظف، أثناء احتسائه الشاي، أو تحضيره الإفطار. ولكنني أذكر الاسطوانة الأكثر تكراراً: ” السيستم عاطل يا أختي، ليش ما عم تفهمي؟ “.كلام مفعم بالاحترام، ونبرة عذبة. عذراً يا أخي الموظف، لأنني فعلاً لم أفهم حينها إشارتك للشيفرا المطلوبة، فقد كنت مشغولة بالتحضيرات للسفر والرحيل عن بلد ” السيستم العاطل”.
بعد عامي الأول في ألمانيا، بتُّ أكره صندوق البريد وكل أنواع الرسائل. كل ذلك يعني المزيد من العمل، والمتابعة، والمواعيد. وكنت أشتاق كثيراً لمفاتيح المعاملات العالقة التي اعتدتها في سورية والـ 25.
ذات يوم، أثناء متابعتي لإجراءات تجديد الإقامة، حدث أن نسيت إحدى الأوراق في المنزل، فأخبرتني الموظفة، بلا مبالاة واضحة أنها ستحدد موعداً آخر بعد شهر ونصف. ولم افلح في إثنائها عن عزمها رغم محاولاتي إقناعها تغيير الموعد أو تقريبه. بالرغم من مماطلتها المتعمدة التي تعاقبت في الأشهر الأخيرة، لم أجهد نفسي بالتفكير بتكرار تجربة صديقتي باللجوء إلى القضاء، لعدم رغبتي في انتظار إجراءات سير القضية التي ستمتد لأكثر من شهر ونصف. نظرت إلى حقيبتي أتأمل عجز الـ 25 هنا بيأس. وقبلت بذلك الموعد وخرجت غاضبة. وما أغضبني أكثر، أن الانتظار الرتيب يدفعني للتفكير بذلك الحل المسموم دوماً، وأنا أمقته كما أمقت البيروقراطية.. لكنه كالأفيون فعلاً.
استغرقت في التأمل طويلاً في التناقض الذي اجتاحني. لا شكّ أن كل ما عليّ فعله، أن أتذكر الصورة الكاملة للفساد، بما فيها تلك النظرات المقرفة التي تطرح كافة خيارات الدفع والحلول المتاحة، وخصوصاً عندما يكون المراجع أنثى.
في تلك اللحظة، قمت بتثبيت ذلك المشهد في رأسي. طالما أني أواجه البيروقراطية نفسها، وأقف في الطابور نفسه، وأنتظر كما ينتظر شتاينماير، وزير الخارجية الألمانية، وأعُامَل كما يُعامَل، فلن أشتكي.. أو على الأقل، سأحاول ذلك.
مزيد من أوراق الويل !
“ويلٌ لأمة سائسها ثعلب وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد”.. والويل ألف الويل لصمتنا.