اعتقد أن الرعاية الصحية بمصر ستشهد تحولاً هائلاً بأيدى وعقل المستهلك (المصرى) وسيتحول المواطن المصرى من مجرد متلقى إلى مشارك ومطور ومراقب ومحدداً لمستقبل صحته وصحة أسرته ومجتمعه، فصحة المصريين لم تكن أبداً من أولويات اهتماماتهم ومؤخراً اكتشفنا أن الصحة والتعليم هما الوسيلتان المضمونتان لتحقيق الاستقرار والسعادة العائلية بل هما أول الطريق لتحقيق الرفاهية.
فى هذا الجزء الثانى من المقال سنركز على كيفية تحقيق النجاحات السريعة بالقطاع الصحى «الممول من خلال نماذج الخدمة بدون مقابل No fee for service» وسنؤجل النماذج الأخرى والمتمثلة فى الاستثمار من خلال القطاع الخاص وصناديق الاستثمار المباشر بالرغم من تأثيرها الكبير جداً على القطاع الصحى لمقالة قادمة.
الرعاية الصحية السليمة تترعرع فى بيئة من المصداقية والشفافية والاخلاص ليتسنى لنا إعادة ضبط العلاقة المتوترة بين الطبيب والمريض، فلقد شهدنا جميعاً خلال الفترة السابقة تدهور شديد فى العلاقة بين مقدمى الخدمة وبين مستقبليها، وشهدنا التزايد الرهيب فى أعداد القضايا المرفوعة ضد الأطباء وضد المستشفيات بحق وبدون وجه حق.
سرعة التغيير الذى يحدث فى عالم الخدمات الصحية والذى سببه الأساسى هو الترابط المفرط hyper-connected والشفافية الطوعية Voluntary disclosure المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعى «تويتر، الفيسبوك، لينكيدأين» والنجاح فى احداث التغيير المرتقب من المستهلكين أنفسهم، هو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى التفاعل مع الحملات التسويقية على وسائل التواصل الاجتماعى.
نؤمن بأن التفاعل الايجابى Positive feedback سيؤدى إلى خلق نظام قائم على الابتكار لحل المشاكل من خلال المشاركة التفاعلية بين كل الأطراف.
المواطن العادى يحتاج إلى الالتزام commitment والذى يتجاوز مجرد الكلمات ذات النوايا الحسنة ولكن المجتمع المصرى يطلب من مقدمى الخدمات الصحية الإعلان بوضوح وشفافية مطلقة عن الإجراءات المؤدية إلى نتائج إيجابية.
المواطن المصرى سيطلب من مقدمى الخدمات الصحية إنشاء ما يسمى بالحوكمة السريرية (الاكلينيكية) وسيجد مقدمو الخدمة الصحية أنفسهم مضطرين ولأول مرة تقديم وإشهار مراجعهم التى يعتمدون عليها لتحديد خططهم العلاجية ولن يرضى المريض بالعلاقة الأبوية مع طبيبه، بل ستتحول إلى علاقة تفاعلية بهدف تحقيق أكبر قيمة مضافة للخدمات الصحية المقدمة.
نشر ثقاقة الشفافية والحوكمة السريرية (الاكلينيكية) سيؤدى حتماً إلى خلق السمعة المرتبطة بالمؤسسات Corporate – Based Brand وسيضعف جداً السمعة المرتبطة باسم الطبيب Doctor – Based Brand أو سيحتويها كجزء من الكل الأكبر (المؤسسة)، وتحول المجتمع نحو العمل المؤسسى هو بداية التغيير الحقيقى لمنظومة الصحة بمصر.
المجتمع سيدفع مقدمى الخدمات الصحية نحو العمل المؤسسى بالتالى سنتحول من البحث عن النزاهة الشخصية العالية لعدد محدود من الأطباء إلى نزاهة الشخصية الاعتبارية (المؤسسة/ الشركة/ المستشفى).
المواطن المصرى يريد أن يكون جزءاً من ثقافة صحية تبغى الصدق والحقيقة ليتمكن من تخطيط حياته والدفاع عن مصلحته.
المجتمع المصرى سيدفع الشركات والمؤسسات لتغيير الثقافة الحالية والخاصة بالمرتبات والمكآفات غير العينية fringe Benefit، فالتأمين الصحى على الموظفين وعلى عائلاتهم لم يكن ابداً من اهتمامات المواطن العادى ولم يكن من الممارسات العادية للشركات المصرية، والتغيير المنتظر والمتوقع هو طرح نظام جديد آدمى يحقق للمواطن استقراره العائلى متمثلاً فى علاج صحى آمن له ولأسرته.
إن القطاع الصحى فى مصرى واجه ضغوطاً ضخمة وسريعة التغير بسبب الديمغرافيا السكانية، وأنماط الأمراض، والمعارف والتكنولوجيا الجديدة وسرعة التطور،والتحديات التى تواجه هذا القطاع هى جزء من التحديات الاجتماعية والاقتصادية العامة عموماً، غير أن بعض هذه التحديات يخص المستشفيات تحديداً. وأهم هذه التحديات تشمل نقص التمويل وضعف نظم إدارة المستشفيات، وتدنى نوعية الخدمات، والحاجة إلى جمع المعلومات النوعية والكمية اللازمة لدعم عملية اتخاذ القرارات مثل الحوكمة السريرية (الإكلينيكية) وصون مبدأ العدالة فى الحصول على الخدمات وتعزيز سلامة المرضى فى المستشفيات والتأكيد على دور المجتمع المدنى فى تقييم المستشفيات وضمان الحصول على الخدمات على قدم المساواة.
هناك العديد من العلامات المؤثرة المؤكدة على حتمية التغيير، بل إنى اعتقد أن التغيير سيحدث بأسرع مما تتخيل، فالمشاركة الإيجابية من خلال التبرع لإنشاء المستشفيات العملاقة والمشاركة الفاعلة لعلاج الأمراض الخطيرة وذات التكلفة المرتفعة، ذلك كله ما هو إلا تعبير واضح لرغبة المصريين لتغيير المنظومة الصحية نحو العمل المؤسسى ولرفضهم للوضع الحالى.
تخيلوا لو أن المؤسسات الخيرية «مؤسسة مجدى يعقوب و57357، دار الأورمان ومصر الخير و25 يناير وأهل مصر» قد قررت تحويل مؤسساتها إلى شركات وتتغير دعواتها من «التبرع إلى المساهمة بشراء الأسهم»، عندها سيجد المصريون أنفسهم ملاكاً لأكبر شركة تقدم الخدمات الصحية، فالمال بكل تلك المؤسسات هو مال عام، هو مال الشعب ولهذا سنشهد قريباً اشهار العديد من الجمعيات والمؤسسات الخيرية والمتخصصة فى التدقيق والرقابة المالية وغير المالية واعتقد أن المصريين سيتحولون من التبرع للعلاج (تبرع غير واضح الأهداف وغير محدد زمنياً) إلى التبرع للتأمين الصحى المنظم (كفالة المريض)، فالكفالة الطبية (التأمين الطبى) لمجموعة من الأفراد (عددهم 10000 نسمة) قد لا تتجاوز الـ 1000 جنيه سنوياً للفرد وهذا النموذج سيحقق المثالية فى جودة الخدمة الصحية المحوكمة وفق أفضل الضوابط، ويتمثل هذا النموذج فى ثلاث جهات منفصلة مستقلة أولاً: جهة تمويلية (الشعب كله من خلال الجمعيات المتخصصة فى التمويل وجمع التبرعات)، ثانياً: جهة رقابية (الجمعيات المتخصصة فى الرقابة) ثالثاً: جهة مقدمى الخدمات الصحية.
ويجب أن يحرص المجتمع المصرى على الفصل القانونى لكل تلك الجهات فيجب أن تظل الجهات الداعية للتبرع، جهاته محصلة فقط وتظل الجهات المراقبة لا تؤدى إلا تلك الخدمة الرقابية وكذلك يجب منع مقدمى الخدمة من الحصول على التبرعات بطريقة مباشرة، بذلك نضمن عدم تضارب المصالح ونضمن المحافظة على أصول الشعب المصرى من الإهدار.
تحقيق النجاحات السريعة بالقطاع الصحى «الممول من خلال نماذج الخدمة بدون مقابل No fee for service ، يمكن تحقيق تلك النجاحات من خلال منع تضارب المصالح والتحول نحو التبرع للتأمين وكفالة المريض وليس للخدمة المباشرة المجانية وإعادة توجيه الجمعيات العاملة فى القطاع الصحى لتعمل وفق أسس الحوكمة السليمة.