يتشارك الوقود السيئ والأسواق المالية ذات التقييمات المصطنعة فى الكثير، فكلاهما يدمر المحركات، وفى حالة البنوك المركزية، فإن محرك الاقتصاد الحقيقى هو ما يتعرض للخطر.
وعلى مر التاريخ، كان الافتراض السائد أن عائدات السندات الأقل سوف تؤدى بالنهاية إلى ارتفاع فى أسعار السندات والأسهم، وأن المكاسب الرأسمالية، وأسعار الفائدة الأقل على القروض التجارية والاستهلاكية المصاحبة لذلك سوف تحفز المزيد من الاستهلاك والاستثمار، وبالتالى ندخل فى حلقة مفرغة تقود إلى نمو الوظائف، واعتدال معدل التضخم، وارتفاع الأرباح.
وبدأ الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى برنامج تيسير كمى فى 2010، ومنذ ذلك الحين تعد أسعار الفائدة فى مستويات منخفضة قياسية عبر معظم العالم المتقدم، وفى نفس الوقت، ينمو الناتج المحلى الإجمالى فى العديد من دول منطقة اليورو، رغم أن معدلات البطالة أعلى مما قد يرغب فيه الكثيرون، وقد يعترف مراقب محايد بأن النموذج يعمل فلماذا إذاً نغيره؟
ولكن هل أسعار الفائدة القريبة من الصفر، والمخزون العالمى بقيمة 13 تريليون دولار من السندات سلبية العائد أمور مفيدة حقا للاقتصاد الحقيقى؟ تشير أحدث البيانات إلى أنها قد لا تكون مفيدة، فنمو الإنتاجية – أفضل مؤشر تقريبا على حيوية الاقتصاد – سيئ فى معظم الدول المتقدمة، ويتراجع على مدار نصف العقد الماضى أو نحو ذلك، ولم يتحسن بعد ظهور التيسير الكمى وأسعار الفائدة الصفرية.
وفى الولايات المتحدة، تحول اتجاه الإنتاجية على أساس سنوى إلى المنطقة السلبية، ويتجاهل معظم المسئولين فى البنوك المركزية هذه الحقيقة باعتبارها انحرافاً قصير الأجل، ولكن الاقتصاد اليابانى يقدم نموذجاً لما يمكن أن تفعله أسعار الفائدة الصفرية لاقتصاد كبير ومتطور، وبالتأكيد ما تفعله ليس الكثير من النمو الحقيقى أو التضخم، وبدونهما لا يتحقق نمو اسمى فى الناتج المحلى الإجمالى كافٍ لسداد الديون فى حال عاد العائد على الديون السيادية إلى مستوياته الطبيعية يوما ما.
وفى الاقتصادات الكبيرة الأخرى، يمكن ملاحظة الآثار السلبية لعائدات السندات السلبية وأسعار الفائدة المنخفضة، فلم يعد الاستثمار – مصدراً مهماً لنمو الإنتاجية – إلى مستوياته الطبيعية المشهودة قبل الأزمة المالية العالمية فى 2008، وتستخدم الشركات كمية متزايدة من النقدية لإعادة شراء الأسهم وهو ما يتعارض مع التوسع فى الاستثمار من أجل النمو.
وفى الولايات المتحدة، يتم إنفاق أكثر من 500 مليار سنويات على تعزيز دخول المستثمرين بدلاً من تحسين الأرباح المستقبلية، وأصبحت الأموال تتحول من الاقتصاد الحقيقى إلى حاملى الأصول المالية.
ولماذا لا يقترض القطاع الخاص أو الحكومات فى ظل انخفاض تكلفة الاقتراض للاستثمار فى النموذج الرأسمالى المستمر منذ قرون والذى يكافئ على تحمل المخاطر فى الاقتصاد الحقيقى؟
بالنسبة للحكومات والوكالات فوق الوطنية مثل صندوق النقد الدولى تهيمن معتقدات توازن الموازنة، اما القطاع الخاص ربما يتردد فى الاستثمار لأن هناك مجموعة من القوى الركودية التى تزيد المخاطر مثل شيخوخة السكان التى تقوض الإنفاق الاستهلاكي، ومثل الاتجاه المناهض للعولمة الذى يعد أوضح مثال عليه هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
كما يدرك مديرو الاستثمار المخضرمون فى الشركات أن الاستثمار فى الاقتصاد الحقيقى فى الوقت الحالى – رغم أن تكاليف الاقتراض عن مستويات منخفضة قياسيا – سوف يعرض الشركات للخطر بمجرد أن تعود عائدات السندات إلى مستوياتها الطبيعية وترتفع تكاليف الاقتراض.
وتوجد عيوب أخرى واضحة للعائدات وأسعار الفائدة المنخفضة، نظراً لأن نماذج الأعمال القديمة ذات الالتزامات طويلة الأجل – مثل صناديق المعاشات وشركات التأمين – تتعرض لمخاطر متزايدة لأنها افترضت أن العائدات المستقبلية ستكون أعلى، وهو ما سيعرضها لخسائر فادحة إذ لم تعد العائدات والفائدة لمستويات طبيعية أكثر.
وسوف تتأثر أرباح هذه الشركات، وكذلك الاقتصاد الحقيقى، ويمكن أن تؤدى الحلقة المفرغة من نخفيض الوظائف، وارتفاع أقساط التأمين، وتراجع المعاشات، وزيادة معدلات التعثر عن سداد الديون، إلى حلقة من الركود والخراب.
ولم يستوعب المسئولون فى البنوك المركزية هذه النتيجة المنطقية بعد، فهم مثل معظم الأفراد، سيفضلون دفع الثمن لاحقا وليس الآن، ولكن إذا واصلوا سياسة المزيد من التيسير الكمى والعائدات المنخفضة، فسيجدون ان المحرك الاقتصادى العالمى تعطل، وبالتالى هناك حاجة ملحة لتغيير المنطق السياسى النقدي.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: صحيفة «فاينانشيال تايمز»