كلما سألت وزيراً فى حكومات مصر ما بعد الثورة عن تقصير ما فى وزارته أو الملف الذى يديره سيادته ستكون حجته الحاضرة هى غياب القوانين أو فسادها! العجيب أن مناط التقصير فى مجال عمل الوزير لا يقرّه الدستور أو القانون بل يجرّمه بشكل واضح، لكنك لو كشفت له عن تلك الحقيقة سيتعلل بغياب العقوبة الرادعة!..هكذا يفلت الوزراء أو يظنون أنهم يفلتون من المسئولية، لكن القضية أخطر من مهارات المسئولين فى البحث عن شماعة لحمل الأخطاء، خاصة إذا كان الثمن المدفوع للقصور التنفيذى هو الأرواح البشرية.
فى تقرير لها صدر عام 2010 قدّرت منظمة الصحة العالمية عدد الأرواح التى تزهق سنوياً فى حوادث المرور بنحو 1.3 مليون شخص، بينما تراوحت الإصابات الناتجة عن تلك الحوادث سنوياً بين 20 و50 مليون إصابة!. وأشار التقرير ذاته إلى أن الخسائر الاقتصادية لحوادث الطرق تكبّد اقتصادات الدول ما يتراوح بين 1% و3% من ناتجها القومى الإجمالى، واعتبرت المنظمة، أن حوادث الطرق هى السبب الرئيس لوفيات الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً.
وإذا كانت قارة أفريقيا تستحوذ على نحو 35% من حوادث الطرق عالمياً، وإذا كان من المتوقّع أن تفقد أفريقيا عام 2050 شخصاً على الأقل فى حادث مرور من كل 20 متوفى، فإن مصر تفقد أكثر من 12 ألف مواطن سنوياً فى حوادث طرق (وفقاً لتقرير خاص صادر عام 2010 عن برنامج سلامة الطرق الذى تموّله مؤسسة بلومبرج الخيرية ويضم عشر دول منها مصر). فإذا أضفنا إلى هذا العدد هامشاً للخطأ فى الإحصاء يتراوح بين 30% و60% كالذى قدّرته منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية لدولها، فإن التقدير، المتحفّظ، لعدد الأرواح المفقودة يتراوح سنوياً ما بين 16 ألفاً و19 ألفاً، علماً بأن سبب التحفّظ على هذا التقدير هو فرضية تقدّم أدوات الإحصاء فى دول المنظمة عن مثيلاتها فى مصر، كذلك تجدر الإشارة إلى أن أحد التقارير الصادرة عن المجلس الأوروبى لسلامة النقل قد قدّر نسبة وفيات الحوادث غير المسجّلة لتتراوح بين 5% و8% فى ألمانيا وهولندا، و12% فى فرنسا و26% فى إيطاليا.
بالعودة إلى القيمة المتوقّع خسارتها من الناتج القومى الإجمالى لمصر وفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية، فإن ما بين 20 و60 مليار جنيه تفقدهم مصر سنوياً نتيجة حوادث الطرق، ولأن مصر تصنّف ضمن الدول الأكثر عرضة لتلك الحوادث، فإن التقدير الأعلى للخسارة هو الأقرب للصحة. علينا إذن أن ننظر إلى الخسائر الكبيرة التى تتكبدها مصر نتيجة حوادث الطرق التى منها ما يقدر بالمال ومنها ما تفوق قيمته كل تقدير. غياب بدائل المواصلات العامة أدى إلى أن تغص الشوارع والطرق بالسيارات الأجرة والخاصة، وغياب بدائل نقل الأفراد والبضائع عبر خطوط سكك حديدية آمنة وممتدة، وكذلك غياب بدائل النقل النهرى، أدى إلى تفشّى سرطان سيارات المقطورة القاتلة التى انتهت مهلة تسييرها فى أغسطس 2015، وعوضاً عن تجديد الترخيص لها كالمعتاد تم إقرارها واعتبارها آمنة دون حاجة إلى تعديل!، ثم ما لبثت الحوادث القاتلة تتوالى ويروح ضحيتها آلاف الأبرياء الذين تدمى القلوب مآسيهم المنتشرة يومياً على مواقع التواصل الاجتماعى، علماً بأن مساهمة المركبات رباعية العجلات فى وفيات حوادث المرور فى مصر تقدّر وحدها بنحو 48% (تقرير سلامة الطرق لعام 2010 سابق الإشارة). إن إهمال تطبيق قانون المرور وقواعده يمثّل جريمة متكاملة الأركان، ومنح التراخيص للقيادة بغير تأهيل ولا متابعة وتقييم مستمرين كمنح سلاح قاتل بغير ترخيص.
د. مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر