اقتصادنا يا تعبنا.. الحلقة الرابعة
أثارتنى مقولة السيد وزير التخطيط الدؤوب والمجتهد حول الفساد فى مصر بكونه مؤسسيا ولا تملك الدولة خطة لمكافحته…رغم المبادرات العديدة واللجنة الوطنية لمكافحة الفساد وتعدد الجهات الرقابية بشأن مكافحته بدء من الجهاز المركزى للمحاسبات الى الرقابة الادارية، لجنة استرداد اراضى الدولة ومستحقاتها، جهاز الكسب غير المشروع وغيرها من الاجهزة والهيئات الرقابية والوزارات (وزارة التنمية الادراية قبل 2011 والتى تم ضمها لوزارة التخطيط والاصلاح الادارى حاليا)، وفوق ذلك كله البرلمان…..هذا التعدد فى الجهات هو فى حد ذاته تشتيت لجهود مكافحة الفساد فى مصر فكل يطلق تقاريره دون تنسيق وكانه الجهة الوحيدة المنوط بها هذا الامر..
الكل يعمل فى انفصال وعدم تناسق وتنسيق رغم صدور تنظيم تعارض المصالح فى نهاية 2013 واطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد فى مصر (2014-2018) التى صدرت فى عام 2014… اى بعد 9 أعوام من دخول اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد United Nations Convention Against Corruption “UNCAC” حيز التنفيذ، حيث تم اطلاقها في 31 أكتوبر 2003، ودخلت حيز التنفيذ في 2005. فقد شكلت هذه الاتفاقية حافزاً والتزاما قويا للعديد من الدول الاعضاء ولاسيما النامية منها لصياغة وتنفيذ سياسات متسقة لمكافحة الفساد، والتي تم وصفها تحديداً بـ “الفاعلية، والتنسيق والاتساق Effective and Coordinated”.
وللاتصاف لم تكن هذه الاستراتيجيه هي بداية الامر فى مصر، ولكن كانت هناك جهود وزارة التنمية الادارية –وقت ان كان يتولاها الدكتور احمد درويش، الرئيس الحالى للهيئة الاقتصادية لتنمية محور قناة السويسس، منذ عام 2008 كما اصدرت الوزارة حينها تقريرين لها فى هذا الشان بالاضافة الى التعاون مع مؤسسة الشفافية الدولية فى إصدار اول تقرير عن النزاهة فى مصر خلال عام 2009..
ولكن ما نتيجة هذه الجهود المتشعبة…؟ كل يوم نقرأ ونسمع عن قضايا فساد جديدة وانه تم القبض على فلان وعلان.. سرقة مش عارف ايه.. رشوة هنا ورشوة هناك.. تلاعب هنا وتلاعب هناك.. الى متى سيستمر ذلك؟ فرغم الصرامة التى يتبعها النظام السياسي الحالى تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى مكافحة الفساد الحالى والذى يضرب بيد من حديد على كل فاسد ولا تتوانى الأجهزة للحظة عن كشف ومتابعة قضايا الفساد…إلا أن هذه الجهود طالما ظلت متشعبة لن تقضى على الفساد الذى اصبح كشبكة عنكبوتية مؤسسية تمتد اطرافها الى موظفى واجهزة الحكومة وكذلك اطراف من القطاع الخاص ايضا..أدت الى تفشي ظاهرة الفساد… نتيجة لهذا التعدد الذى يدعمه تداخل الاختصاصات بين الاجهزة الحكومية فى القوانين والتشريعات ووجود مساحة للتأويل البشرى لنصوص القانون التى يكتنفها عدم الوضوح، البيروقراطية والدولة العميقة وضعف الكفاءات او ارتعاش اياديها، بالاضافة الى اسباب اقتصادية واجتماعية أخرى مثل الفقر والعوز كحافز لتقاضى الرشوة، وتفاقم الازمات الاقتصادية، ارتفاع معدلات البطالة، ضعف المنافسة وزيادة الممارسات الاحتكارية، …الخ.
كذلك قد يتسبب التدخل المبالغ فيه للحكومة في إدارة الاقتصاد والتدخل فى حركة آليات السوق إلى تزايد فرص التربح والفساد… بشكل يتيح سلطة تقديرية للأفراد المسئولين ومن ثم قد يسيئون استغلالها. فضعف المنافسة فى السوق يؤدي إلى تعدد فرص التربح غير المشروع. وبالتالى يؤدي إلى تعظيم الأرباح والمنافع التي تحصل عليها الشركات، ومن ثم فإن الحكوميين وأصحاب المناصب ذوي الصلاحيات المنظمة لبيئة الأعمال التي تعمل تلك الشركات في ظلها – كالموظفين في مجال الضرائب ونحوهم – يكون لديهم فرصة وحافز أكبر للمطالبة بمنافع غير مشروعة جراء التعامل مع تلك الشركات فيما يتعلق بتخصيص الموارد لها أو حتى فرض القانون عليها. وتفتح القيود الشديدة على حركة التجارة مجالاً خصباً لمنح الرشاوى لتخفيف حدة التقييد او تهريب السلع والبضائع وضياع موارد كبيرة على الدولة. وفي حالات أخرى قد تؤدي حماية الصناعة المحلية عن طريق فرض رسوم جمركية حمائية مرتفعة واستمرارها لفترات طويلة إلى منح مزايا احتكارية لمصنعين المحليين كما يضعف من قدرة الصناعة المحلية على تطوير نفسها وتعظيم تنافسيتها، مما يدفعهم إلى التكتل لتكوين ضغط لمنع رفع تلك الرسوم، وهو ما قد يؤدي إلى اللجوء الى الرشاوى والممارسات الفاسدة مع صناع القرار في هذا المجال. لا شك ان الاقتصاديات المفتوحة والمنضبطة تقترن بشكل أكبر بمستويات أقل من الفساد.
كما قد يؤدى تفشي وسيطرة آليات التحكم في الأسعار الى ظهور دروب اخرى للفساد، وتحديداً الآليات التي تهدف إلى وضع سقف لأسعار معينة دون مستواها الذي يحدده العرض والطلب، وذلك لأسباب اجتماعية أو سياسية، حيث قد يصاحب هذا بعض ممارسات الفساد كتهريب السلع المدعومة لبيعها في السوق الموازية حيث يتم بيعها بأسعار مرتفعة وتحقيق مكاسب غير مشروعة، أو حتى قد يتم تقديم الرشاوى للحصول على حصص غير مستحقة من تلك السلع. كما أن تعدد أسعار الصرف قد يؤدي كذلك إلى التربح من وراء إتاحة النقد الأجنبي للفئات المختلفة (المستثمرين، المستوردين، وغيرهم) والاستفادة من فروق الاسعار والتاثير على اسعار البضائع. فجميع الفئات ستحاول الحصول على النقد الأجنبي بأى ثمن، مما يفتح الباب أمام تقديم الرشاوى أو التأثير على ذوي الصلاحيات لتخصيص النقد الأجنبي بأي طريقة ممكنة.
كما قد يؤدى نظام الدعم الحكومي غير المنضبط مع فقر الرقابة، في كثير من الظروف إلى زيادة أعمال التربح، خاصةً إن كانت عملية الدعم غير واضحة في تحديد الفئات المستحقة وكيفية وصول الدعم إليها وهو ما يتطلب قدراً عالياً من التحديد وكذلك في حال ضعف الرقابة وآليات المتابعة حول وصول السلع والخدمات المدعومة إلى مستحقيها وبأي كيفية وعلى أي مستوى، كذلك قد يمتنع أو يماطل الموظفون مستحق الدعم من الحصول عليه إلا بعد تقدیم الرشاوي والهبات لهم. أو التلاعب فى اسعار توريد السلع او عقد صفقات جانبية للحصول على عمولات من اجل اتمام توريد السلع لمنظومة السلع المدعمة نظرا لحجم المستهلكين المستفيدين منه وبالتالى يعد سوقا خصبا لدروب متشعبة من الفساد..
لا بد من اعادة النظر فى كيفية تطبيق استراتيجيتنا لمكافحة الفساد والتى وردت فى 27 صفحة اراها قيمة جدا ويمكن البناء عليها وعلى الخطة التى وردت فى نهايتها وعلى ما انجزته وزارة التنمية الادارية سابقا والنظر فى كيفية تفعيلها للحد من الفساد الى الحدود الدنيا وتحسين ترتيب مصر فى مؤشر مدركات الفساد لعام 2015 الذى يصدر عن مؤسسة الشفافية الدولية حيث احتلت مصر الترتيب رقم 94 من ضمن 170 دولة للانتقال من ترتيب الدول فى المنطقة الوسطى الى ترتيب الدول المتقدمة كالدنمارك وسنغافورة وفنلندا والسويد والنرويج…. ولذلك لابد من وجود هيئة قومية عليا واحدة single regulator منوط بيها مكافحة الفساد الكبير منه والصغير دون تفريق ومنح موظفيها الضبطية القضائية والتنسيق مع باقى الجهات الاخرى الرقابية فى تنفيذ الاستراتيجية بعد مراجعتها، ومراجعة التشريعات الوطنية وتنقيحها للحد من تضارب الاختصاصات بين الاجهزة الحكومية وتوسيع قاعدة اللامركزية ومعايير الشفافية والنزاهة والمساءلة وقواعد الحوكمة وتبسيط الاجراءات وميكنتها واصدار الادلة المفسرة ومراجعتها باستمرار بما لايخلق مجالا للتأويل البشرى ويقلل من التعامل المباشر بين الموظف ومتلقى الخدمة، وتدريب الكوادر المنوط بيها مكافحة الفساد وعلى كيفية التنسيق فى عملها تحت مظلة هذه الهيئة، وتقديم الموارد والقدرات والتدريب الذي يساعد على القيام بمهمة تتبع الفساد ومحاصرته والقضاء عليه.
لن نستيطع فى مقالة واحدة التعرض لكافة جوانب هذه القضية الحيوية لما لها من تأثير سلبى على مناخ الاستثمار وتآكل ثمار النمو وكأنها اشواك فى حلق التنمية المستدامة المنشودة وحتى يشعر المواطن بجهود التنمية المبذولة.. إذن، لا بد من اعادة النظر فى كيفية تطبيق استراتيجيتنا لمكافحة الفساد والتى اراها قيمة والبناء عليها وعلى ما انجزته وزارة التنمية الادارية سابقا والنظر فى كيفية تفعيلها للحد من الفساد الى الحدود الدنيا وتحسين ترتيب مصر. واستغلال خبرات الدول المتقدمة والدول التى فشلت لتلافى اسباب الفشل والاستعانة بالمؤسسات الدولية كمؤسسة الشفافية الدولية والبنك الدولى الذى بناء على الممارسة العملية خلال العقود الاخيرة للقرن الماضة وبدايات القرن الحالى قام فى عام فى عام 2007 بتدشين إستراتيجيته للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد (GAC) وأكد فيها من جديد التزامه المستمر بجدول أعماله الصعبة والحاسمة فى مساعدته للبلدان على تطوير ذاتها والتحول إلى مفهوم الدولة المسئولة والفعالة accountable and effective state. منوها أنه عندما تكون الحكومة أكثر رشادة وجودة فى إدارتها لشئون البلاد فى ضوء تفعيل قواعد وقيم النزاهة والمساءلة والإفصاح والشفافية والقيام بإصلاحات مؤسسية وتشريعية حقيقية وتبنى منظومة جيدة لحرية وتداول المعلومات ودعم المشاركة المجتمعية المؤسسية وليست العشوائية الفوضوية من قبل كافة قوى وجماعات المجتمع المدنى والقطاع الخاص وجماعات المصالح والنقابات فى إطار من العلاقة التبادلية التفاعلية الصحية بين الدولة والمجتمع، فإن كل تلك العوامل من شانها أن تدعم الاستقرار الاقتصادى والسياسى فى المجتمع واضطلاع الحكومات المتعاقبة بمسئوليتها لتحقيق التنمية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهذا لا يعنى ألا تضطلع الدولة بدورها الرقابى القوى… فالدولة القوية .. قوية بمؤسساتها المستقلة وقوانينها الحديثة المستقرة ونظمها المتطورة..وتعليمها المتميز…ومن ثم عنصرها البشرى المدرب والمزود بكافة الاسلحة التى تعينه على اداء مهامه..بكفاءة وفاعلية..
وما نبغى الا اصلاحا…