إذا أخذت عينة عشوائية من 100 مواطن مصرى وسألتهم عن أحوالهم المعيشية والاقتصادية، فغالبا هتلاقى 70 منهم على الأقل يشتكون ازياد مستوى معاناتهم وتراجع قدرتهم على شراء أساسيات الحياة ومتطلبات الحياة الأسرية ورعاية الأبناء إلخ إلخ، ولن تجد الـ 30 الباقين أفضل حالاً، ولكن معظمهم سيشتكى من تزايد تكلفة الحياة «الكريمة» بشكل يحصد معه كل تقدم يحققوه فى تنمية دخولهم الشخصية، فقط تذهب الزيادة فى الحفاظ على حد أدنى من الحياة الكريمة نظراً لزيادة تكلفتها بشكل مطرد وبلا توقف، يعنى بشكل أو بآخر ستجد عامة المصريين يشتكون الفقر بشكل أو بآخر، أما بشكل حقيقى مجرد من أى تفسير، أو بشكل نسبى متمثل فى مستوى الجودة المرغوب بالحياة، الحصول على النتائج المبسطة دى مش هيفرق كتير لو عملنا الاستطلاع ده النهاردة أو عملناه من 2010 وهو العام الذى سبق ثورة يناير، فى مقابل هذه «الادعاءات» من جموع المواطنين، سنجد أن الحكومة ومسئوليها دائمو الكلام عن إن ده مش حقيقى وإن مصر بتتقدم والناس مرتباتها زادت ومعاشاتها كبرت والشركات مش لاقية حد يشتغل، فى محاولة بالطبع لامتصاص أى غضب محتمل، أو تكذيب ادعاءات الفقر هذه جملة وتفصيلا.. طيب هل يعنى ده أن الشعب المصرى ما بيعجبوش العجب، أم أن هناك أسباباً حقيقية ملموسة تفسر بشكل واقعى لماذا نتلقى دائما هذه الردود؟ هل تحسن وضع عامة المصريين عبر الـ 6 سنوات الماضية، أم أن الوضع الاقتصادى والمعيشى ما يزال محلك سر وربما يزداد بؤسا.
عشان نجاوب عن السؤال ده هنحاول نعمل مقارنة بسيطة بين عامى 2010 و2106 من واقع النشرة الحكومية الخاصة بأسعار المستهلكين (نشرة التضخم) اللى بيصدرها الجهاز المركزى للإحصاء.. وهنرجع بذاكرتنا إلى عام 2010 والزخم الذى ملأه من احتجاجات واسعة النطاق من موظفى الحكومة والقطاع العام وقطاعات واسعة من المواطنين والعاطلين (وده قبل الثورة أصلا)، يعنى بشكل مبسط، تعبير واسع النطاق عن الفقر والجوع والمعاناة المعيشية.. السنة دى هنعتبرها وطبقاً للنشرة الحكومية هى سنة الأساس إللى هنقارن على أساسها التحسن إللى حصل فى أحوال عامة الشعب. يعنى هنفنرض إن موظفاً ما بيعبر عن الشريحة الكبرى من الموظفين كان بيتقاضى 100 جنيه فى الشهر وبيشترى بيهم سلعاً وخدمات هو محتاجها عشان حياته.. فى عام 2016 بقى، هيحتاج كام عشان يحصل على نفس كمية السلع والخدمات سنة 2016؟؟ النشرة بتقولنا إنه فى شهر يونيو 2016 هيحتاج 190 جنيهاً عشان يحصل على نفس المشتريات.. يعنى زيادة مقدارها 90% فى تكلفة ذات نفس الحياة البائسة اللى كان بيعيشها الموظف ده من 6 سنوات.. ومن ثم فأى واحد دلوقت بمقدوره إنه يقارن بين إللى كان بيقبضه سنة 2010 وإللى بيقبضه 2016، فلو طلع نسبة الزيادة أكتر 90% يبقى مستواه المعيشى اتحسن نسبيا، ولو كانت أقل من 90% يبقى مستوى المعاناة بالفعل زاد وأصبح مضطر يستغنى عن حاجات كان بيشتريها من 6 سنوات ودلوقت مش هيقدر عليها.
طيب ما هى السلع والخدمات اللى الحصول عليها أصبح يشكل العبء الأكبر لرب الاسرة وأى تغير فى أسعارها يعصف بجزء معتبر من دخله؟ اول هذه السلع وطبقا لنشرة التضخم هى الطعام والمشروبات والوجبات الجاهزة واللى بتشكل مع بعضها حوالى 48% من متوسط مصروفات الأسر المصرية وبالتالى أى زيادة طفيفة فيها هتؤثر بشكل فورى على جيب الموظف أو رب الأسرة، والحقيقة إن متوسط الارتفاع فى أسعار هذه المجموعات السلعية أعلى كثيراً من المتوسط العام.. يعنى اذا كان المتوسط العام للأسعار ارتفع بمقدار 90% بين 2010 وعام 2016، فالارتفاع فى مجموعات الطعام بلغ أكثر من 125% وهو بيمثل زى ما قلنا 48% من متوسط الانفاق، يعنى على الأقل 60% من الزيادة فى التضخم ترجع إلى ارتفاع تكاليف الغذاء بجميع اشكاله.. طيب هل ده مفاجأة بأى شكل؟ بالطبع لا.. وده لأن الغذاء يعنى ببساطة شديدة زراعة ونشاط زراعي.. طيب هل زاد الإنتاج الزراعى على مدار السنوات الماضية؟ الصراحة لأ.. وأرقام الجهاز المركزى نفسه بتقول كدة، بين عام 2010 وعام 2013، تراجع إجمالى كمية الإنتاج الزراعى بنسبة تقترب من الـ1% فى الوقت إللى الطلب زاد على الغذاء بمعدل أعلى بكتير نتيجة ارتفاع الأجور بعد الثورة، أو الزيادة السكانية التى تحتاج إلى مزيد من المنتجات الزراعية.. يعنى التضخم الحاد فى هذه المجموعة السلعية أمر طبيعى وليس مفاجأة، ولو فيه أى خطة لاحتواء التضخم مستقبليا فلابد أن تقوم بشكل جوهرى على توفير المنتجات الزراعية التى تترجم معظمها إلى شكل أو آخر من الغذاء وبالتالى لابد من توسع أفقى فى الرقعة الزراعية، أو توسع حاد فى إنتاجية الفدان من المنتج الزراعى وتكون نسبة التوسع سواء أفقى أو رأسى أعلى من نسبة النمو فى الأجور.
أخيرا نأتى لتقييم مستوى التغير المطلق لدخل المصرى من حيث نصيبه فى إجمالى الناتج المحلي، سنجد أن سنة 2010/2011 كان إجمالى الناتج المحلى حوالى 1300 مليار جنيه بالأسعار الجارية وعدد السكان بالداخل 78.7 مليون وبالتالى متوسط دخل الفرد بلغ حوالى 16.5 الف جنيه سنويا، وفى سنة 2015/2016 تقديرات الناتج المحلى بلغت حوالى 2700 مليار جنيه وعدد السكان بلغ 89 مليون نسمة، وبالتالى متوسط الدخل اصبح 30.3 ألف جنيه. لكن لحظة، هذه الزيادة المتضاعفة تقريبا فى الدخل هى بالأسعار الجارية، بمعنى أننا لم نأخذ فى الحسبان الأثر التضخمي، ماذا يحدث لو ادخلنا التضخم فى المعادلة؟ سيصبح الدخل الحقيقى للفرد يساوى 15.9 ألف جنيه!!! يعنى تراجع يزيد على 3% فى الدخل الحقيقى للمواطن المصرى، يعنى على أفضل الأحوال، ما تزال حياة عامة الشعب المصرى على وضعها بل وازدادت سوءاً، لكن هل يتساوى جميع المواطنين فى سوء الأحوال أو بقاء الوضع على ما هو عليه؟ مؤشر جينى لقياس التفاوت فى الدخول يعطينا إجابة تقريبية، المؤشر يعطى مصر رقم 30، وده يعنى بشكل تقريبى كدة إننا لو قسمنا الناتج المحلى ثلاثة أجزاء وقسمنا السكان ثلث وثلثين، فسنجد أن الثلث الأكثر حظا من السكان يحصل على نصيب الثلثين من الناتج المحلي، بينما يعيش ثلثين السكان الباقيين على ما تبقى من الناتج المحلى إللى حوالى 33% تقريبا (الحساب الدقيق معقد لكنه لن يبتعد عن هذا التقريب كثيراً)، يعنى بالفعل أغلبية الشعب أحواله ازدادت بؤساً وصعوبة بينما الأقلية التى تصل إلى 20 أو 30% أحوالها تحسنت فى المجمل من حيث الدخل العام، ولكن طبعاً من حيث جودة الحياة ربما ازدادت صعوبة (وقد تحتاج هذه الشريحة إلى تحليل احصائى خاص بها لتوضيح هذه الملحوظة).
المهم وفى النهاية ان المصريين فى واقع الأمر لا يدعون الفقر ولا يشتكون الحياة عشان مش عاجبهم العجب، بل لأن المصريين فقراء بالفعل وربما يزدادون فقراًَ كل يوم.
أيمن هدهود