نقطة اللاعودة لسوق الشحن البحرى
نهاية أغسطس الماضى، استيقظ العالم على خبر مفزع، إفلاس واحد من أكبر خطوط الحاويات، تحديداً السابع عالمياً، والأول فى كوريا الجنوبية، هانجين للشحن البحرى، واحتلت الكارثة وتفاصيلها حيزاً كبيراً من الاهتمام فى وسائل الإعلام.
لكى نفهم قوة الكارثة وتأثيرها الضخم، يجب أن ندرك الحقائق الآتية، هانجين للشحن هى جزء من مجموعة هانجين الكورية الجنوبية العملاقة، تملك هذه المجموعة شركة تسويق، شركة الطيران الكورية (وهى أيضا من أهم المساهمين فى هانجين للشحن)، شركة خدمات لوجستية وأخرى فندقية، شركة للاتصالات وغيرها.
تملك هانجين وحدها 2.9% من الحصة السوقية لنقل الحاويات عالميا، وتقوم بمناولة 4 ملايين حاوية سنويا، وتشغل 140 سفينة (93 منها سفن حاويات والباقى سفن لبضائع الصب).
تملك هانجين أيضا محطات حاويات فى كوريا، الولايات المتحدة، أسبانيا، اليابان، فيتنام، تايوان، هذا بجوار ترسانة لبناء واصلاح السفن فى الصين.
تقوم هانجين بنقل 50% من بضائع سامسونج المصدرة إلى الولايات المتحدة بجانب 25% من بضائع LG، قيمة الأصول كانت تقدر بـ 1.2 مليار دولار من عام لتهوى الآن إلى 292 مليون دولار فقط.
تشترك هانجين فى تحالف CKYHE المرموق مع ثلاثة من أشهر خطوط الحاويات عالميا، K LINE، COSCO، EVERGREEN، تحالف الشحن البحرى شبيه بنظيره فى النقل الجوى، شركات شحن كبيرة لديها سفن عملاقة أحجامها فى ازدياد كل يوم، لا تملك القدرة الاقتصادية لتشغيل هذه السفن على خط ملاحى يربط بين مجموعة من الموانئ بتوقيتات ثابتة، فتشترك سويا فى توفير هذه الخدمة عن طريق توزيع الحمولات وتقسيم الخطوط فيما بينها.
هنا يأتى السؤال، كيف يمكن لشركة بهذه الضخامة أن تفلس بهذه الطريقة المفاجئة غير المسبوقة؟
ظلت هانجين تكابد الخسائر منذ خمسة سنوات مضت لأسباب سيأتى ذكرها، واعتمدت بشكل أساسى على الاستدانة لتمويل أعمالها، حتى وصل حجم الدين بجانب المستحق عليها إلى 5.9 مليار دولار! ما بين تكلفة ايجار مستحقة إلى ملاك سفن، أو لموفرى خدمات التموين، وبالطبع سندات مستحقة، وجاء العام 2016 بخسائر إضافية 453 مليون دولار فى نصف السنة الأول.
رفض بنك التنمية الكورى الجنوبى، باعتباره الدائن الرئيسى لهانجين، خطة إعادة الهيكلة التى تقدم بها مجلس الإدارة فى أغسطس، بعد فشله المتتابع فى تنفيذ الخطط والوعود السابقة، ورفض ملاك السفن التى تستأجرها هانجين العرض البائس لمقايضة رسوم الإيجار المستحقة لهم بأسهم فى الشركة، كما أعلنت الحكومة الكورية أنها لن تقوم بدعم الشركة المتهاوية، ليصبح مجلس إدارتها أمام الحل الوحيد وهو طلب الحراسة القضائية على أصول الشركة، لحمايتها من الاحتجاز بواسطة الدائنين، وهو ما حدث بالفعل فى بعض الموانئ.
الموقف بشكل عام محير جداً وغير مسبوق، 70 سفينة إما تقف فى المياه الدولية، لا تستطيع الرسو فى الموانئ ولا الرجوع، أو محتجزة داخل الموانئ لصالح الدائنين، مئات البحارة عالقين على هذه السفن فى مأساة إنسانية، لديهم مؤن تكفيهم لوقت محدود.
بضائع بالمليارات على هذه السفن، لا يستطيع أصحابها اتمام اتفاقاتهم التجارية، وخصوصا البضائع المتعلقة بموسم الأعياد فى أمريكا، كما ذكرت سابقا سامسونج تخسر مليارات بما يحدث لهانجين لأنها تنقل حصريا معه، هناك 4800 موظف وإدارى لا يعلمون شيئاً عن مستقبلهم، ديون يجب سدادها وأصول بالمليارات سيتم بيعها.
لن استفيض فى شرح الموقف المعقد أكثر من ذلك لأنه بالفعل تناولته الميديا بكل أشكالها بالتفصيل، ولكن ما يهمنى هو تحليل أسباب الكارثة.
أول الأسباب أن العالم يمر بوضع اقتصادى مضطرب، يدفع السياسيين لاتخاذ إجراءات حمائية تحد من الاستيراد، وكما هو معروف ان التجارة الدولية (الاستيراد والتصدير) هى المحرك الرئيسى للنقل الدولى، الذى يتم حوالى 90% منه عن طريق البحر، هذا أثر سلبيا على إيرادات شركات الشحن جميعا، ولكنه ليس الخطر الوحيد على هذه الشركات.
حيث يتوقع لهذه الصناعة خسارة 10 مليارات دولار فى 2016 بسبب فائض الحمولة. سفن تجوب العالم بدون استغلال كامل حمولتها بسبب زيادة أحجام السفن وانكماش حجم التجارة.
قد يتساءل البعض، لماذا تتسابق الشركات على بناء سفن بحمولات أكبر (وصلت إلى أكثر من 19000 حاوية فى سفن الحاويات) رغم انعدام الجدوى الاقتصادية لهذا الأمر؟ الإجابة تحتاج مقالاً منفصلاً قد ننشره لاحقا.
ولكن السبب الأكثر أهمية لانهيار هانجين هو ما حدث بعد الأزمة المالية فى 2008 التى أثرت سلبا على سوق الشحن، مما دفع مجلس ادارة الشركة لاتخاذ قرار متسرع، ببيع جزء من السفن المملوكة للشركة، والاعتماد بنسبة 66% على التأجير طويل الأمد من ملاك آخرين.
لم يقتصر الأمر على هذا فحسب، حيث تم إبرام هذه العقود فى سنة 2010، حيث كانت أسعار التأجير مرتفعة بنسبة تصل إلى 40 – 50% من أسعار السوق الحالية. أى أن هانجين مكبلة بعقود ايجار مرتفعة عن السوق لفترات طويلة، تقوم بموجبها بتشغيل سفن دون استغلال لكامل حمولتها، أى أنها تخسر ومستمرة فى الخسارة كل يوم، فكان من الطبيعى عدم القدرة على الوفاء بتعهداتها مع الملاك، وباءت كل محاولاتها لتعديل العقود معهم بالفشل، لأن هؤلاء الملاك حصلوا على سفنهم عن طريق تمويل بنكى فى بادئ الأمر!
الأمر معقد أليس كذلك؟ هانجين لا تربح المال الكافى لتغطية تكلفتها بما فيها إيجار السفن، ملاكها بدورهم يريدون دفع أقساط سفنهم ولا يستطيعون، حلقة مفزعة من الديون، أضف إلى ذلك أن هانجين أيضا تقوم بتأجير حاوياتها من ملاك حاويات، الكارثة شبيهة بحالة السفن، ولكن أيضا هناك مشكلة كبيرة فى استعادة الحاويات المستأجرة من أنحاء العالم، جزء منها فى الموانئ، مع تجار، مصانع، أو ملقى فى صحراء غير معروف مكانه!
السبب الأخير هو أن الحكومة الكورية، عن طريق بنك التنمية الكورى فاضلت ما بين دعم شركتى شحن كوريتين لديهما مشاكل مالية متشابهة، هيونداى للملاحة التجارية وهانجين، فاختارت هيونداى لنجاحها الجزئى فى خطتها لإعادة الهيكلة.
كل هذه الأسباب وغيرها أدت لهذا الموقف الصعب، والذى يشكل نقطة اللاعودة لسوق الشحن البحرى كله، نستعرض فى مقال قادم بإذن الله تأثيرات هذا الحدث على السوق الملاحى والتجارة الدولية وسلاسل الإمداد.
محمد صلاح الدين عبدالسلام
محاضر وباحث فى النقل الدولى واللوجستيات