البلد كله متوقف.. حالة البيع والشراء تترقّب حدثاً ما.. النشاط الاقتصادى مشروط بوضوح الرؤية الاقتصادية للحكومة أو على الأقل وضوح التكتيك قصير الأجل المرتبط بإصلاح خلل عميق فى بنية الأسواق!. الفجوة بين سعرى السوق السوداء والسوق الرسمية للدولار اتسعت بشكل مقلق، والندرة الدولارية يعززها طلب حقيقى على الدولار بغرض الاستيراد (بقيمة 90 مليار جم سنوياً وفقاً لتقرير البنك المركزى المرفوع للبرلمان مؤخراً) أو بغرض سداد الالتزامات وتحويل إيرادات النشاط، وطلب مفتعل تحكمه حالة القلق والاضطراب وحمى الدولرة للحفاظ على قيمة النقود فى أى وعاء مستقر، وهو ما جعل الذهب يشتعل والعقار أيضاً بل ومختلف الموجودات والأصول من سيارات لأخشاب لأي بضائع قابلة للتخزين، حيث يراها الناس أفضل من البنكنوت. هذا الوضع غير قابل للاستمرار، فالحديث عن التعويم وضع الأسواق فى حالة من الثبات أو الاسترخاء التام انتظاراً لدرجة هذا التعويم، وهل هو حر أم مدار وإلى أى حد تنخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار الأمريكى، وسائر العملات الصعبة. الحلول المتداولة إعلامياً لأزمة الدولار لا يقابلها حديث مسئول، وهى حلول عبثية فى معظمها، وقعها على الأسواق أسوأ فى رأيى من حالة النوم المغناطيسى الذى وضعتنا فيها الحكومة.
الحديث عن مبادلة العملة بين الجنيه المصرى واليوان الصينى بعد دخول الأخير ضمن العملات المساندة لإصدار حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولى باعتباره حلاً لأزمة الدولار هو كمن يبحث عن شراء سيارة رولز رويس لأن السيارة البورشه باهظة الثمن!. الأزمة فى مصر ليست أزمة دولار على وجه الخصوص بل هى أزمة عملة صعبة نتيجة تراجع جميع مصادر النقد الأجنبى من تجارة إلى سياحة إلى تحويلات عاملين أو حتى قناة السويس بفرض ثبات إيراداتها فهى أقل من المتوقع لها، كذلك لا توجد استثمارات أجنبية مباشرة كافية لتوفير عملة صعبة داخل البلاد. دخول اليوان فى سلة العملات الرئيسة الداعمة لحقوق السحب الخاصة لصندوق النقد له أثر واحد مباشر وهو زيادة الطلب على اليوان كعملة مقبولة فى التجارة العالمية، ما يجعله أقوى ويجعل الصادرات الصينية أغلى نسبياً، ولما كانت الصين صافى مصدّر لمصر وبنسبة عجز كبيرة جداً فى ميزان المعاملات البينية، فمن المتوقع أن تعود زيادة الأسعار بالسلب على حجم التعاملات وعلى أسعار السلع فى السوق المصرية.. أما عن قصر التعامل بين البلدين على الجنيه واليوان، واستبعاد الدولار الأمريكى فيجب أن ننتبه إلى أن قوة الجنيه أمام اليوان تتحدد فى المديين المتوسط والطويل على أساس ميزان التجارة بين البلدين كعامل أساس، وهذا الميزان كما سبقت الإشارة يميل بشدة تجاه الصين، وبالتالى فمن غير المنتظر أن يكون اليوان حلاً للخروج من أزمة نقص الدولار لأن المعروض الدولارى سوف ينخفض بنفس نسبة تواجد اليوان بالسوق المصرية، وكل ما سيحدث هو خلق طلب على عملتين بدلاً من عملة واحدة وبالتأكيد سيعود نقص المعروض من هاتين العملتين على سائر العملات الصعبة بالارتفاع.
التعويم المدار أو الجزئى لن يقدم للسوق أكثر من مسكنات سرعان ما يختفى أثرها وتعود الفجوة بين سوقى الصرف الرسمية والموازية للاتساع.. أما التعويم الكامل فمن المستحيل الإقدام عليه فى ظل هذا المستوى المتدنى من الاحتياطى، والإقبال المفرط على الدولرة، وغياب الثقة فى الأداء الاقتصادى للحكومة والأسواق.. وقد فقدت البرازيل فى إحدى محاولات تحرير سعر فى حقبة التسعينيات نحو نصف احتياطى النقد الأجنبى لديها بما يقدّر حينها بـ35 مليار دولار فى ثلاثة أشهر فقط من بدء التحرير! وارتفعت معدلات التضخم بنسبة 3000%!!. كذلك لا يمكننا الاعتماد على رقم واحد لدى الحديث عن حجم احتياطى النقد الأجنبى لمصر (حوالى 19 مليار دولار حالياً) لأن هناك مراكز مكشوفة بالدولار فى البنوك، قد بلغ العجز فيها 12 مليار دولار، وهناك قوائم انتظار كبيرة لا يتم إشباعها. أما ترك الوضع على ما هو عليه فهو أيضاً مستحيل.
الخطوة التى أقدمت عليها شركة«klm الهولندية» بالانسحاب من السوق سبقها إليها عدد من الشركات التى تعذَّر تحويل أرباحها إلى بلادها لا بسبب عقبات خاصة بالتحويل ولكن لندرة النقد الأجنبى، وانتظار الشركات فى قوائم طويلة للحصول على الدولار عبر القنوات الرسمية، علماً بأن القنوات غير الرسمية والأبواب الخلفية للتحويل مثل شراء أسهم مصرية فى الداخل وبيعها فى صورة شهادات إيداع دولية، فضلاً عن كونها مكلفة وغير متاحة طوال الوقت هى أيضاً ممارسات محظورة لدى الشركات الكبرى.
إذن ما الحل؟! لا بديل عن توفير العملة الصعبة سريعاً عن طريق التنشيط السياحى، ومنع استخدام الدولار فى المعاملات المحلية، مثل دفع مصاريف المدارس الدولية مع قصر إتاحة الدولار فى البنوك لحاجة الواردات الأساسية ومدخلات الصناعة الضرورية للتصدير وللإحلال محل الواردات، وكذلك طرحه (كحل سريع) فى سوق صرف موازية مراقبة «فوركس» يتحدد على الشاشات وفقاً للعرض والطلب للاستخدامات الأخرى، ويعمل فى تلك السوق صنّاع سوق أو متعاملون رئيسيون هم البنوك، كما يعمل وسطاء هم شركات الصرافة، ويراقب تلك السوق البنك المركزى. أما فى الأجلين المتوسط والطويل فلا بديل عن الإنتاج السلعى والخدمى بوفرة تسمح باستقرار أسعار السلع والخدمات وحتى أسعار صرف النقد الأجنبى.
دكتور- مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر