منذ انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيساً لمصر فى منتصف عام 2014، أخذ بعض صنّاع القرار الاقتصادى المحيطين بدوائر الحكم يروّجون لفكرة واحدة مدارها، أن أزمة الاستثمار فى مصر تكمن فى القانون رقم 8 لسنة 1997! وأخذ وزير الاستثمار السابق السيد أشرف سالمان، على عاتقه مهمة تغيير هذا القانون، وإن كان قد تحيّز فى البداية إلى إدخال بعض التعديلات على القانون رقم السائد، لكننا فوجئنا بعدد كبير من المسوّدات بمشروعات لقانون جديد تتقلّب بين أيادى أصحاب المصالح والخبراء بغرض استطلاع آرائهم، هذه من وزارة الاستثمار، وتلك من لجنة الإصلاح التشريعى، وأخرى من اتحاد الصناعات.. حتى بلغت المسودّات المتداولة فى بعض التقديرات ما لا يقل عن 16 نسخة! بالطبع كنا نناقش إحدى المسودّات بثقة فى أنها الأخيرة، فنجد من يخرج بنسخة من جعبته ليؤكد أن ما بحوزته هو ما سوف يصدر به قرار الرئيس (ولم يكن البرلمان قد انتخب بعد).
هذا الأسلوب فى إمطار المجال العام بمشروعات قانون متباينة بل ومتضاربة فى بعض الأحيان، هو سلوك احترفه الإخوان إبان فترة حكمهم القصيرة، حتى إذا ما اتهمهم أحد بالتقصير فى جانب من مواد مشروع قانون جديد (للصكوك مثلاً) رفضوا الاعتراف بالخطأ، وزعموا أن النسخة التى ورد بها العيب والتقصير لا تعدو أن تكون مسودّة قديمة، وأن الجديدة تتلافى هذا الأمر! ثم يتوه الناس بين المسودّات وتختفى المواد المهمة فى التفاصيل، بينما يضيع وقت المدققين فى قراءة عشرات النسخ. لا أعلم إذا كان الأمر مقصوداً من قبل وزارة الاستثمار حينها أم لا، لكننى لن أكرر خطأ من غرقوا حينها فى الاختلاف حول النسخ وأريد أن أضع يدى على الأزمة الفعلية.
مرّت الأشهر الأولى من تولّى الرئيس بحديث متواتر عن قانون استثمار جامع مانع، بحيث يكون خلاصة رأى كل الأطراف ويرضاه الكافة!.
حقيقة شككت فى إصدار قانون يرضاه الجميع، واقترب موعد مؤتمر شرم الشيخ فوضع وزارة الاستثمار تحت ضغط كبير، واختفت فجأة أهم وأفضل مسودة –فى رأيي- وكانت صادرة عن اللجنة العليا للإصلاح التشريعى. بصفة عامة تلافت تلك المسودة الكثير من الملاحظات التى وردت على المشروعات السابق تداولها مجتمعياً، وكشفت عن رغبة صادقة لدى كل من اللجنة العليا للإصلاح التشريعى واللجنة المختصة بوضع مشروع القانون فى وضع قانون شامل لتنظيم الاستثمار فى مصر، بدءاً بالرؤية العامة للاستثمار، مروراً بأهدافه وخططه وضماناته وحوافزه، بما يحقق التنمية المستدامة ويراعى المسئولية الاجتماعية دون التنازل عن سيادة الدولة أو الترخّص فى حقوق الشعب. اتسم مشروع القانون الأفضل بالاتساق التشريعى، فكان يضع فى الاعتبار القانون المنظم للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، والقانون المنظّم للمناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة، ويميز «المشروع الاستثمارى» المستهدف بالتنظيم بحد أدنى لرؤوس الأموال المستثمرة، بل ويميز متطلبات رؤوس الأموال وفقاً لنوع النشاط.
لكن عشية المؤتمر الاقتصادى صدر ما يعرف بقانون الاستثمار الموحّد، ولكن بعنوان جديد هو حزمة تشريعية لإصلاح منظومة الاستثمار! لنجد أن القانون رقم 8 ظل سارياً، وكذلك القانون رقم 230 لسنة 1989 الذى لم يتبق به سوى مادة واحدة!، وأضيفت تعديلات هنا وهناك على قوانين أخرى مثل قانون العقوبات. أصر وزير الاستثمار على تصدير هذا الخليط العجيب المفاجئ باعتباره أفضل قانون استثمار «موحّد» شهدته مصر! الحقيقة أن البعض صدّق أن هناك قانوناً موحّداً بالفعل، وراح بعضهم يجادلنى فى لقاءات عبر الفضائيات فى كون القانون جديداً ومتكاملاً، وطبعاً كل ذلك الخلط كان سببه غرق الناس فى مسودات عديدة، لم يتصور أحد إهدارها جميعاً وإهدار ساعات الخبرة والرأى التى أنفقت عليها.
اليوم ونحن على مشارف صدور قانون جديد بعد نحو عام من حزمة «سليمان» التشريعية، يبدو من تسريبات ملامح هذا القانون أنه أقرب ما يكون إلى نسخة الإصلاح التشريعى. يرجّح صدق هذه التسريبات، صدور بعض القرارات المهمة مثل تشكيل مجلس أعلى للاستثمار، والذى كان إحدى أهم ركائز مشروع القانون المهدر آنفاً. هذا أمر إيجابى وعودة إلى الصواب فيما يتعلّق بالجانب التشريعى من أزمة الاستثمار، لكن يظل حكمى النهائى على هذا الجانب رهناً باطلاعى على مشروع القانون الذى لم يتم تداوله بعد.
أما الجانب الأهم فهو ضرورة العمل على تلافى معوّقات الاستثمار العديدة، والتى تتراوح بين صعوبات فى إصدار التراخيص وتخصيص الأراضى، وبين سياسات مضطربة لسعر الصرف، وعقبات بيروقراطية عقيمة، وفساد مؤسسى مقيت.. وهى موضوعات يضيق بها هذا المقال، لكن الأمر المبشّر أنها جميعاً محل اشتباك مع قرارات وتوجّهات الحكومة الحالية حيث لم يعد تجاهلها ممكناً.
د. مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر