نجاح فكرة ضرب احتكار اللحوم، وبيعها بأسعار أقل من سعر السوق واضح للجميع. فاستخدام المنافذ التابعة للقوات المسلحة أو المجمعات الاستهلاكية أو السيارات التى جابت المناطق النائية والقرى واضح للجميع. وإذا كان البعض ما زال يشترى من الجزارين بأسعار مرتفعة، فلا بأس؛ لأن النزول بالأسعار فى مصر كلها لن يتحق إلا على المديين المتوسط والطويل.
موضوع هذا المقال هو تحقيق الاستدامة فى هذا المجال، والتوسع فيه بحيث يشمل سلعاً أخرى وبنفس الطريقة التى سيعجز المحتكرون ومن يعاونهم من موظفين فاسدين عن مقاومتها. فالطبيعى فى وجود المحتكرين الحاليين فى جميع السلع من حبوب وتوابل وأخشاب وزيت وغيرها، أنهم سيدهسون أى مستورد يحاول دخول هذه الدائرة المربحة. ولقد تعلمنا فى الاقتصاد، أن أى مجال مربح يسعى لدخوله الكثيرون، وبالتالى يزيد المعروض وتنخفض هوامش الربح إلى أن تصل للمستويات المقبولة التى لا يمكن النزول عنها. وعليه فإن المحتكرين لا يسمحون بحدوث هذا من الأساس، ويتخذون من الإجراءات بمعاونة عناصر الجهاز الإدارى الفاسدة بما يحول دون نجاح هذا الدخيل ونجاته بفعلته حتى لا يكررها وحتى يكون عبرة لغيره.
ولكن من محاسن الصدف، أن هؤلاء المحتكرين لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك مع جهاز الخدمات العامة للقوات المسلحة التى قدر لها أن تحمى مصر ليس فقط من الخارج، ولكن من أعداء الداخل أيضاً. ولهذا السبب رأينا محاولات محمومة من بعض التجار لضرب سمعة سيارات توزيع اللحوم المجمدة: ففى إحدى قرى الجيزة على سبيل المثال استغل الجزارون وجود السيارات وتزاحم المواطنين حولها للشراء، وقاموا بتسريح عدد من الصبية يبيعون أربعة أكياس من إحدى ماركات البطاطس المقلية المعبأة مقابل جنيه واحد فقط. وكانت العبوات منتهية الصلاحية، واشتراها المواطنون لأولادهم؛ نظراً إلى رخص أسعارها والتى تزامنت مع رخص أسعار اللحوم، وبطبيعة الحال أصيب الأطفال بنزلات معوية، فراجت على الفور شائعات «أن الحكومة بتبيع لكم لحمة فاسدة وبتقول لكم رخيصة». واكتشف الأهالى الأمر، وأبلغوا الشرطة التى تعاملت مع الموضوع. نستنتج من هذا أن دور التاجر المرجح الذى لعبته سيارات جهاز الخدمة الوطنية كان مؤثراً بالفعل، ونجح فى إجبار الجزارين (خاصة فى القرى) على النزول بأسعارهم.
المشكلة هنا أن أى تراجع فى معدل نزول سيارات اللحوم رخيصة السعر إلى الأسواق يؤدى على الفور إلى رفع الجزارين لأسعارهم، ومن هنا تأتى أهمية الاستدامة.
هذه الاستدامة يمكن تحقيقها عن طريق خلق سلسلة واسعة من تجار الجملة والموزعين الذين يشترون مباشرة من جهاز الخدمة، ويقومون بالبيع طبقاً لأسعار محددة مسبقاً تراعى هامش ربح مناسباً. وعلى الفور سيظهر سؤال حول كيفية الرقابة على هذه السلسلة؟
هنا أحيلكم لما قامت به إحدى الشركات العابرة للقارات فى مصر منذ اثنين وعشرين عاماً فى إحدى محافظات الدلتا. فقد كانت هذه الشركة تبيع منظفات صناعية لتجار الجملة والتجزئة، وعلى قدر الملاءة المالية للتاجر كان يتم منحه الخصومات والكميات الكبيرة. وفى إحدى المحافظات وجدت الشركة أن هناك عدداً محدوداً من تجار الجملة، وخشيت أن يؤدى هذا لاحتكارهم السوق فى هذه المحافظة، وبالتالى يملون شروطهم على الشركة فى المستقبل. ولذلك قررت الشركة التوقف عن البيع للجملة، وكلفت فى الوقت ذاته أحد مديريها بالبحث لشهور طويلة على تجار صغار يمكن البيع لهم بالآجل ومساعدتهم مادياً فى إنشاء أو توسيع مخازن حتى نجحت بعد قرابة السنة فى مضاعفة عدد تجار الجملة سبعة أضعاف، وهنا بدأت البيع لعدد كبير من التجار الذين أنشأتهم بنفسها لتضمن بذلك صعوبة اتفاقهم مع بعضهم البعض.
وبالتالى إذا قامت مؤسسة مثل القوات المسلحة أو الشركة القابضة للتجارة بالاستيراد، وقامت بتأهيل عدد كبير من تجار الجملة والموزعين فسيصعب على كل هؤلاء رفع الأسعار، نظراً إلى قوة المنافسة بينهم بسبب كثرة عددهم، وفى نفس الوقت تظل سيارات الخدمة الوطنية على نشاطها بحيث تكون بمثابة السيف على رقبة من يفكر فى رفع سعره خارج الأطر المحددة.
من مميزات هذه الفكرة أن التمويل ممكن من خلال آلية الإقراض متناهى الصغر أو الصندوق الاجتماعى أو الجمعيات غير الهادفة للربح. من مميزاتها أيضاً خلق فرص عمل متعددة، وخلق روح الإدارة بين المتقدمين لمثل هذا المشروع. من مميزاتها خفض الأسعار وإراحة الضغط على الشارع المصرى حتى يتقبل إجراءات خشنة مثل تقليص فاتورة الدعم، وخفض أسعار اللحوم سينسحب أيضاً على أنواع أخرى من البروتينات ستسعى من تلقاء نفسها للمنافسة. ومع نجاح الفكرة يمكن بسهولة التوسع فى مجالات أخرى غير اللحوم مثل الأخشاب أو الحبوب أو غيرهما.
إننا ننادى دائماً بآليات السوق الحر، ولكن تنفيذها يشترط عدم وجود تشوهات يأتى على رأسها الاحتكار. وبدلاً من أن نمضى وقتنا فى كيل الاتهامات للمؤسسة العسكرية، وانتقاد ذراعها الاقتصادية، تعالوا نثمن ما حققته من توازن فى السوق، ونفكر فى كيفية تعظيم الاستفادة منها لإصلاح بلدنا.