اقتصادنا يا تعبنا….. الحلقة 13..
عندما تذهب فى رحلة بحرية، وتجد نفسك فى مياه عميقة، وترغب فى العوم لترى الشِعاب المرجانية والسمك الملون ولا تعرف العوم.. تجد من يعينك بـ«لايف جاكيت» ويأخذ بيدك ذهاباً ورجعة.. لتكون بأمان وللحفاظ على حياتك من الغرق.. فهل فكرت الحكومة عندما اتخذت قرار التعويم وهو قرار يشوبه الصواب لأن صواب القرار مرتبط بسياقه (ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية) والتوقيت والإخراج والرؤية.. صحيح أنه يجب حل مشكلة الفرق بين السعر الرسمى وسعر السوق السوداء.. ولكن هل قرار التعويم كان الحل الأفضل؟ وهل كان قرار زيادة أسعار المحروقات فى ذات اليوم مساء مناسباً من حيث التوقيت؟.. هل تمت دراسة الأثر الاقتصادى لهذه القرارات على الموازنة العامة للدولة وعلى الفقراء والطبقة المتوسطة؟ هل تم حساب التكلفة الاقتصادية لبرامج الحماية الاجتماعية؟ هل تم وضع مؤشرات قياس أداء للفترة القادمة؟
معروف أن القرار الاقتصادى غالباً ما يتسم بالرشادة والمنطقية، «مش بالزنقة ومعلش أصل إحنا مزنوقين فى قرشين ورايحين على قرض صندوق حطينا فيه التزامات على نفسنا.. ولو ما طبقناش حزمة القرارات دى أياً كانت آثارها مش هناخذ القرشين من صندوق النقد ومعاها البركة إن إحنا عالم حلوين واشادة والذى منه»..
بالتعويم انخفضت قيمة مرتبات الناس ومدخراتها بالجنيه المصرى ما بين 70 و100% بحسب سعر الصرف الجديد.. وأكثر الطبقات المتضررة هم الفقراء والطبقة المتوسطة.. فقد اتخذت الحكومة القرار، وتركت هذه الطبقة فى وسط البحر منهم من يعرف العوم ولكنه منهك وتم استنفاد قواه وموارده ومنهم من لا يستطيع العوم بتاتاً، ولم يعط أياً منهم وسائل للحماية من الغرق فى بحر التعويم.. لم أر برامج للحماية الاجتماعية سوى عناوين بلا أرقام ولم أر خططاً لإعادة القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل السياحة والإنتاجية المصدّرة (صناعة أو زراعة) إلى سابق عهدها أو أكثر.. لم أر لعباً بالبيضة والحجر على رأى أحمد زكى الممثل القدير.. وكل ما رأيته أن الحكومة سلكت الطريق الأسهل.. والله أعلم كما ستكون عمق الآثار السلبية لهذا القرار رغم إشادة العديد به – وانا لست منهم- ورغم خروج لوبى المراكز المالية المكشوفة وأنصار التعويم مهللين وكأنه فتح مكة.. لأنه بالتأكيد ما لديهم من دولار وأصول سيحفظ لهم قيمة ثراوتهم..
ألم يعلموا أن دولة مثل ماليزيا بعد الأزمة الاقتصادية فى عام 1998 رفضت تخفيض عملتها، ورفضت التعامل مع صندوق النقد الدولى.. ودولة مثل البرازيل بعدما غرقت بتنفيذها شروط الصندوق عادت من جديد للحياة على يد لولا دى سيلفا ببرنامج إصلاحى قوى مبتعدة عن الصندوق.. حتى مصر فى بداية التسعينيات من القرن العشرين تعاملت مع الصندوق فى البداية، ثم توقفت بعد ذلك.. تركيا لجأت إلى الصندوق فى البداية لتحقيق دفعة للأمام ثم أوقفت التعامل معه..
لا شك أن تحقيق نمو اقتصادى مستدام ذى أساس قوى يجب أن يقوم على ازدهار الاقتصاد الحقيقى الذى يقوم اساساً على الإنتاج الزراعى والصناعى ونموهما… حيث كلما زاد الإنتاج الصناعى والزراعى زاد التشغيل وزادت التجارة المحلية والدولية لتصرف المنتجات، ومن ثم استمرار العملية الإنتاجية.. وفى مصر لدينا النوعان الاقتصاد الحقيقى (وبه خلل هيكلى واضح وبه تحديات اقتصادية تعوق نموه) والاقتصاد الريعى القائم على عوائد القطاعات الخدمية كالسياحة والموانئ وقناة السويس والقطاع المالى المصرفى وغير المصرفى وتحويلات العاملين بالخارج وشاكلتها.. إذاً كلا النوعين يعانى مشاكل.. وهذه المشاكل تحتاج إلى سياسات واضحة مستقرة تعالج هذه المشاكل.. فلا يمكن الحديث عن حل الظاهرة او الظواهر (مشاكل ظاهرية اسبابها مشاكل اقتصادية تحتاج إلى حل).. فمشكلة تدهور سعر الصرف هى فى الأساس ظاهرة أسبابها تكمن فى تدهور إيرادات السياحة- انخفاض قيمة الصادرات (مقابل ارتفاع كبير فى الواردات)- انخفاض نسبى فى إيرادات قناة السويس- انخفاض الاستثمار الأجنبى المباشر- وانخفاض شديد فى تحويلات العاملين بالخارج وذهابها إلى الديلرز dealers ممثلى شركات الصرافة أو تجار العملة داخلياً وخارجياً..
ألم نتعلم من تجارب الدول الأخرى ومن تجربتنا كمصر فى عهد حكومة (العاطفين) الأولى مع الصندوق خلال حكومة د. عاطف صدقى وتوقف بعد ذلك.. والثانية بتخفيض كبير للجنيه فى عام 2003 فى عهد د. عاطف عبيد.. ترتب عليه إفلاس العديد من الشركات ونتائج سلبية عديدة فاقت إيجابياته لمدة عام ونصف العام انتقل فيها سعر الصرف للدولار/ الجنيه من 3.5 إلى 7 جنيهات.. انخفاض بنسبة 100%…
يكفى أن مصر خلال الفترة من 2004 إلى 2010 لم تلجأ إلى صندوق النقد الدولى رغم الوضع الاقتصادى الصعب حينها، واستطاعت زيادة الصادرات والانتقال بالاستثمار الأجنبى المباشر من 400 مليون دولار فى عام 2002 الى 13.2 مليار دولار فى العام المالى 2007- 2008.. ولم نفكر فى تغيير العملة.. إذن هناك حلول قد تكون أصعب، ولكنها أكثر استدامة.. فكرنا حينها فى تعديل سياساتنا والإتيان بفريق قوى يقود البلد إلى وضع أفضل وتحقيق معدل نمو وصل إلى 7.2%. إذن تعويم أو تخفيض العملة لا يمكن أن يؤتى ثماره ما دام جانب العرض (وفرة الدولار) به خلل، وهو لن ينصلح إلا بعلاج الأسباب التى أدت إلى ذلك.
ننصح بحل المشاكل الاقتصادية من خلال سياسات واضحة وتوجيه الاستثمار للقطاعات الاكثر احتياجاً وإسهاماً فى تحقيق تنمية حقيقة مستدامة.. وعرض فرص استثمار حقيقية على المستثمرين أسوة بما تم مع سيمنس وهيئة ميناء سنغافورة وغيرهما.. ويمكن تجنيب قانون المناقصات والمزايدات مؤقتاً، وذلك من خلال المجلس الأعلى للاستثمار تسريعاً للوتيرة ولحين عودة عجلة الاقتصاد للدوران مرة أخرى..
وما نبغى إلا إصلاحاً…
[email protected]