الحديث عن المراكز المالية العالمية التى يمكن أن تحاط تعاملاتها بالسرية، وتصلح أن توصف بالملاذات الضريبية الآمنة (tax havens) أو المراكز الخارجية «مراكز الأوفشور» (offshore centers) عادة ما يخلط بين الممارسات المشبوهة والجرائم المالية التى ترتكب تحت غطاء الهياكل الخارجية أو هياكل الأوفشور المختلفة، وبين جملة نشاط تلك الهياكل. هذا الخلط يمكن فهمه وقبوله أيضاً نظراً إلى الطبيعة السرية التى تحاط بها عمليات تلك المراكز.
الملاذ الضريبى «هو دولة أو إقليم تنخفض فيه مستويات الضرائب المفروضة على الدخول ورؤوس الأموال أو تنعدم، وتعمل على جذب الأموال اعتماداً على هذه الميزة، وعادة ما تحاط التعاملات والأرصدة فى تلك الدول والأقاليم بالسرية».
حاولت شبكة العدالة الضريبية التمييز بين الملاذات أو الجنات الضريبية Tax Havens ومراكز الأوفشور المالية Offshore Financial Centers OFC
لكنها توصّلت إلى أن الفروق يصعب الوقوف عليها كما يصعب وضع تعريف جامع مانع لتلك المراكز والملاذات، يكفى أن شكلاً من أشكال السرية وآخر من انخفاض أو انعدام الضريبة موجود فى كلا التصنيفين، لذا فلن تميّز هذه الورقة بين الملاذات والمراكز المالية.
وقد قدّرت شبكة العدالة الضريبية عدد الملاذات الضريبية حول العالم بنحو 69 ملاذاً عام 2005 (TJN 2005)، كما عرضت تصنيف صندوق النقد الدولى لمراكز الأوفشور المالية وعددها 46 مركزاً (FSF-IMF2000)، وكذلك عرضت تصنيف منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية/ الاتحاد الأوروبى لعدد 41 ملاذاً ضريبياً و21 دولة ذات نظم ضريبية تفضيلية ضارة بعدالة التوزيع (OECD2000/EU).
«إيميلدا ماركوس» السياسية الفلبينية والابنة الكبرى للرئيس الفلبينى الأسبق فرديناند ماركوس كان ظهور اسمها فى أحد التسريبات التى عمل عليها الاتحاد العالمى للصحفيين الاستقصائيين سبباً فى طرح تساؤل حول الدافع وراء إخفاء الشخصيات العامة لحسابات وصناديق ومؤسسات فى ملاذات ضريبية آمنة.
القانون الفلبينى يتطلب من الموظف العام تقديم إقرار سنوى بإجمالى الأصول والالتزامات وصافى الموجودات التى يمتلكها هذا الموظف. هذا الإقرار يجب أن يشتمل على المصالح والروابط المالية داخل وخارج البلاد. الدستور الفلبينى ينص أيضاً على ضرورة الإفصاح التام لأعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ عن جميع الأعمال والمصالح المالية للنواب بمجرد دخولهم البرلمان.
التحرّى عن مليارات عائلة ماركوس أصبح صعباً فى السنوات الأخيرة نظراً لصعوبة تتبّع الأموال فى الملاذات المختلفة بعد تراخى الحكومة الفلبينية فى تقصّى تلك الأموال وحرص الكثير من تلك الملاذات على إخفاء المعلومات الضرورية لتتبعها وذلك حتى لا تفقد تلك الملاذات سمعتها التى تمكّنها من استبقاء عملائها واكتساب عملاء جدد. نتيجة ذلك بدا أن الحكومة الفلبينية قد تراجع حرصها على استعادة تلك الأموال المهربة لعائلة ماركوس والمجموعات المرتبطة بها، لكن الجرائم التى ارتكبها ماركوس الأب ضد حقوق الإنسان وحدها حالت دون توقف اللجنة التابعة لوزارة العدل عن التحرى عن أمواله وذويه، وحتى عام 2015 كانت اللجنة الرئاسية لاستعادة الأموال المشبوهة لعائلة ماركوس ومعارفه (اللجنة الرئاسية للحكومة الجيدة (the Presidential Commission on Good Government (PCGG) قد استردت ما يقرب من 170 مليار دولار أمريكى (حصيلة تم تكوينها خلال الفترة من 1986-2005) وقد تم توجيهها لمشروعات الإصلاح الزراعى بالفلبين. ومازالت تسريبات بنما الأخيرة تشكف هى الأخرى عن تورّط العديد من الساسة الفلبينيين ومنهم أبناء إيميلدا ماركوس الثلاثة.
كشفت التسريبات التى تناولها أحد مقالات «سرية للبيع.. فى داخل متاهة أموال الأوفشور العالمية» عن تورّط مسئولة حكومية تايلاندية بارزة (Nalinee «Joy» Taveesin) تربطها صلات مع ديكتاتور أفريقيا الشهير روبرت موجابى فى استخدام فرع شركة ترست- نت فى سنغافورة لإنشاء شركة سرية لصالحها فى جزر العذراء البريطانية.
عائلة الرئيس الأسبق حسنى مبارك كانت حاضرة فى كثير من التسريبات الماضية وأحدثها تسريبات بنما التى أشارت بأصابع الريبة إلى تعاملات سرية لعلاء مبارك الابن الأكبر للرئيس الأسبق ودوائر أخرى متصلة به. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أشارت فى تقرير لها صدر حديثاً إلى أن شبكة العدالة الضريبية قد قدرت تكلفة ممارسات التهرب الضريبى المختلفة التى يأتى من ضمنها الاستثمار السرى الدائرى ونقل الأرباح باستخدام الملاذات الضريبية فى مصر بنحو 68 مليار جنيه مصرى سنويّاً (لم يتم العثور على مصدر هذا البيان فى إصدارات شبكة العدالة الضريبية)، ووفقًا لذات المصدر فقد احتلت الجزر الصغيرة التى سبق تصنيفها كملاذات ضريبية تبعاً لأكثر من تصنيف دولى مراكز متقدمة من حيث حجم استثماراتها الواردة إلى مصر خلال الفترة من عام 1970 حتى عام 2013، فعلى سبيل المثال احتلت جزيرة كايمن البريطانية المركز السادس من حيث حجم الاستثمارات فى مصر قبل دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا بنصيب 85 شركة إجمالى رأسمالها نحو 6 مليارات دولار، وفى المركز الحادى عشر جاءت الجزر العذراء البريطانية بعدد 112 شركة مستثمرة فى مصر، يبلغ رأسمالها نحو 2.7 مليار دولار، وتستثمر هذه الدويلات الصغيرة فى نحو 479 شركة مصرية رأسمالها يتخطى الـ12 مليار دولار.
للتأكد من صحة اتجاه البيانات السابقة فقد تم الرجوع إلى أحد التقارير الصادرة عن البنك المركزى والتى تناولت المركز الخارجى للاقتصاد المصرى من خلال تصنيف أرصدة أكثر الدول المصدرة للأوراق المالية التى تمثّل أعلى استثمارات حافظة فى مصر بنهاية ديسمبر 2011. احتلت جزر كايمن البريطانية المركز الرابع بعد كل من الولايات المتحدة والسعودية والمملكة المتحدة بقيمة 138.3 مليون دولار أمريكى وجاءت سويسرا فى المركز الخامس برصيد 119.1 مليار دولار أمريكى، ثم قفزت جزر كايمن إلى المركز الثالث بنهاية ديسمبر 2014 لتسجل ما قيمته 334 مليون دولار أمريكى بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية.
وللحديث بقية..
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر