فوز دونالد ترامب المذهل فى الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة، أظهر شيئاً واحداً، وهو أن كثيراً من الأمريكيين خاصة الذكور البيض يشعرون بأنهم قد أهملوا فى الفترات السابقة.
وهذا ليس مجرد شعور، فإن العديد من الأمريكيين حقاً أهملوا كما توضح البيانات التى لا تقل وضوحاً عن غضب هؤلاء. وكما أكدت مراراً وتكراراً، فإن أى نظام اقتصادى لا تصل عائداته لشرائح واسعة من السكان هو نظام فاشل. فما الذى يجب على الرئيس المنتخب ترامب القيام به حيال ذلك؟
خلال الثلث الأخير من القرن الماضي، أعيدت قواعد النظام الاقتصادى الأمريكى بالطرق التى تخدم عدداً قليلاً على قمة المجتمع، فى حين تعرض الاقتصاد ككل إلى أضرار، خاصة الشريحة الباقية من المواطنين. والمثير للسخرية أن الحزب الجمهورى الذى يقوده «ترامب» حالياً، هو الذى قاد البلاد تجاه العولمة المتطرفة، ووقف ضد أطر السياسات التى تخفف من الصدمة المرتبطة بها، ولكن التاريخ مهم، فالصين والهند تندمجان الآن فى الاقتصاد العالمى وإلى جانب ذلك تتطور التكنولوجيا بسرعة كبيرة، ما أدى إلى تراجع الوظائف عالمياً فى القطاعى الصناعى.
والورطة، حالياً، هى أنه ليس هناك طريق لـ«ترامب» يمكن أن يوفر من خلاله عدداً كبيراً من الوظائف ذات المرتبات المجزية فى المجال الصناعى داخل الولايات المتحدة، وقد يمكنه أن يحقق عودة قوة القطاع الصناعى من خلال التصنيع الحديث، ولكن سيكون هناك عدد قليل من الوظائف فى النهاية. ولو نجح فى استعادة معدلات التوظيف الأعلى فستكون المتاحة منخفضة الأجر، وليست عالية كما كان الحال فى خمسينيات القرن الماضي.
وعموماً إذا كان «ترامب» جاداً فى معالجة عدم المساواة، لابد له من إعادة كتابة القواعد مرة أخرى بطريقة تخدم جميع أفراد المجتمع، وليس مجرد مجموعة من الناس مثله (رجال الأعمال).
وتتطلب الخطوة الأولى من العمل تعزيز الاستثمار، وبالتالى استعادة النمو القوى على المدى الطويل، وينبغى على «ترامب» التأكيد على الإنفاق على البنية التحتية والبحوث. ومن المثير للصدمة بالنسبة لبلد يعتمد على الابتكار التكنولوجى لتحقيق النجاح الاقتصادي، أن تكون حصة الناتج المحلى الإجمالى من الاستثمار فى البحوث الأساسية حالياً أدنى مما كانت عليه قبل 50 عاماً.
ومن شأن تحسين البنية التحتية، أن تسهم فى تعزيز العوائد من الاستثمار الخاص والتى هى متراجعة أيضاً.
كما يجب ضمان قدر أكبر من الوصول إلى الخدمات المالية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بما فى ذلك تلك التى ترأسها سيدات الأعمال، وأيضاً تحفيز الاستثمار الخاص. وسوف يسهم فرض ضريبة على الانبعاثات الكربونية توفير ميزات ثلاثية: النمو العالي، وتحديث الشركات لخفض زيادة تكاليف انبعاثات ثانى أكسيد الكربون، وأخيراً بيئة أكثر نظافة. ويمكن استخدام عائدات الضريبة فى تمويل البنية التحتية، وتعزيز جهود تضييق الفجوة الاقتصادية الأمريكية، ولكن، نظراً إلى أن موقف «ترامب» معارض لفكرة تغير المناخ فإنه من غير المرجح أن يستفيد من هذه الأطروحات، مع ملاحظة أنه سوف يتسبب فى دفع العالم لبدء فرض رسوم جمركية على المنتجات الأمريكية التى تنتهك قواعد تغير المناخ العالمي.
هناك حاجة، أيضاً، إلى نهج شامل لتحسين توزيع الدخل فى الولايات المتحدة، التى تعد واحدة من الأسوأ بين الاقتصادات المتقدمة من هذا الجانب، فى حين وعد «ترامب» برفع الحد الأدنى للأجور، لكنه من غير المرجح أن يجرى تغييرات مهمة أخرى، مثل تعزيز حقوق التفاوض الجماعى للعمال والقوة التفاوضية، وكبح حوافز المدراء التنفيذيين والميزات المالية فى المؤسسات.
ويجب أن يتحرك الإصلاح التنظيمى إلى أبعد من مجرد الحد من أضرار القطاع المالي، للتأكد من أن القطاع يعمل بصدق لصالح المجتمع.
وفى أبريل الماضى، قال تقرير أصدره مجلس الرئيس باراك أوباما للمستشارين الاقتصاديين عن الأداء، إن هناك زيادة فى انحسار السوق بالعديد من القطاعات، وهذا يعنى أن هناك تراجعاً للمنافسة وارتفاعاً فى الأسعار، ما تسبب فى خفض الدخل الحقيقى، كما تتراجع الأجور مباشرة. وتحتاج الولايات المتحدة إلى معالجة هذه الاحتكارات لقوى السوق، بما فى ذلك أحدث مظاهرها وهو ما يسمى «تقاسم الاقتصاد».
ويعتبر النظام الضريبى متخلفاً فى أمريكا، ويعزز تفاوت الدخل من خلال مساعدة الأغنياء فقط ليزدادوا ثراءً، ولذلك يجب إصلاحه وتحديد هدف واضح؛ للقضاء على المعاملة الخاصة للأرباح الرأسمالية وأرباح الأسهم.
وهناك شىء آخر هو التأكد من أن الشركات تسدد الضرائب وربما يجرى ذلك عن طريق خفض معدل ضريبة الشركات بالنسبة للمستثمرين الذين يوفرون فرصاً للعمل داخل البلاد وزيادتها على الشركات التى لا تفعل ذلك. ورغم أنه مستفيد من هذا النظام، فإن «ترامب» تعهد بمتابعة الإصلاحات التى تعود بالنفع على المواطنين الأمريكيين العاديين، ولكن عادة ما يقوم الجمهوريون بتغييرات ضريبية يستفيد منها إلى حد كبير الأغنياء.
وهناك ورقة رابحة، أيضاً، لتعزيز تكافؤ الفرص من خلال ضمان تعليم ما قبل المدرسة للجميع، وزيادة الاستثمار فى المدارس العامة، فهو أمر ضروري، إذا كانت الولايات المتحدة تريد تجنب الوقوع فى براثن الإقطاعيين الجدد، حيث يستفيد أشخاص دون غيرهم من مزايا، لكن «ترامب» كان صامتاً تقريباً حول هذا الموضوع.
ويتطلب استعادة مشاركة الرخاء تنفيذ سياسات توسيع نطاق الحصول على مساكن بأسعار معقولة ورعاية طبية، وتأميناً للتقاعد بحد أدنى من الكرامة، والسماح لكل أمريكى بغض النظر عن ثروة العائلة أن يخوض مرحلة ما بعد التعليم الثانوى، بما يتناسب مع قدراته ومصالحه.
وإذا أرد «ترامب» فعلاً مساعدة أولئك الذين تم تجاهلهم فلابد له من تجاوز معاركها الأيديولوجية الماضية.
المصدر: بروجيكت سينديكيت
إعداد: ربيع البنا