هذا البناء الصغير مساحة، الكبير قيمة وعلماً وتاريخاً يسطر قصة لحالة نادرة فى تاريخ مصر الحديث..حالة تكثيف فريدة لطاقات بشرية مخلصة أمكنها أن تبرّهن على قدرة الإنسان المصرى على الإبداع رغم كل الظروف. كذلك يكشف التاريخ عن حالات تكثيف زمانىّ لمجتمعات مثالية سادتها قيم عليا سنوات معدودة، أبطل الله بها حجة من يزعم استحالة إقامة تلك المجتمعات على ذات الأسس. مجتمع المدينة المنوّرة مثلاً على عهد رسولنا العدنان الذى تظلنا اليوم ذكرى مولده العطرة، فما علمناه من تجل للخير والنماء والإبداع فى هذا المجتمع الطاهر كان تكثيفاً لنموذج مثالى أمكن أن يقيمه البشر، بغض النظر عن عمر هذا النموذج، لأن مقوماته كانت تحتمل الاستمرار لو التزم الناس المنهج، ولله المثل الأعلى.
فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة بقية من خير، العلوم التى يتلقّاها الطلاب تواكب ما يتلقاه أقرانهم فى جامعات أوروبا وأمريكا. سباق مع الزمن وتطوراته لا يستقيم بدونه دور معاهد العلم فى أى من العصور. الأنشطة المختلفة تحيل الكلية إلى مجتمع حى نابض طوال الوقت، تواصل بين هيئة التدريس والطلاب، وبينهم وبين المجتمع المدنى بأقطابه النشطة، ومع الحكومة بوزرائها وكبار تنفيذييها، ومجلس النواب بأعضائه الذين يتلقّون تدريبات خاصة على يد المتخصصين بالكلية..اتصال بكبار الكتاب والمثقفين وكبار الساسة والاقتصاديين. فى العام الماضى اختارها «توماس بيكيتى» الاقتصادى الشهير صاحب الكتاب الأكثر مبيعاً عام إصداره «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» مقراً لعقد ندوته الكبرى، وملتقى بالمجتمع المصرى والعربى لمناقشة كتابه وأصدائه حول العالم.
الكلية التى تأسست عام 1960 يتصل ماضيها بحاضرها، تكرّم قدامى خرّيجيها وتنتفع بهم وبخبراتهم، تتواصل دورياً مع المحدثين منهم فتنقل أسواق العمل بتفاصيلها المتغيرة إلى هيئة التدريس والطلاب، تؤثر بذلك على المحتوى التعليمى، وتحفظ شعوراً متفرّداً بالانتماء يجعل هذا الخرّيج رهناً لإشارة إدارة الكلية إن هى استعانت به فى أمر ما. نماذج المحاكاة المتنوّعة بدت آلية مناسبة للحفاظ على هذا التواصل ونقل الخبرات العملية الواقعية إلى الطلاب بمرونة ويسر. أذكر أنى كنت شاهداً على نشأة النماذج الأولى وكنت وزملاء دفعتى والدفعات السابقة علينا نواة تلك النماذج، وظللنا على اتصال بها بعد التخرّج نساهم فى إعداد اللاحقين بنا، نرد بذلك ديناً للكية علينا ولا نستطيع.
كل ذلك يمكن للقارئ الكريم أن يشعر بوجوده بدرجة ما فى كليته التى تخرّج فيها، لكن الأمر فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية يظل مختلفاً، والمناخ العام لا يعرف شبيهاً له إلا من تعلّم فى كبرى الجامعات المصنّفة عالمياً.
عمداء الكلية على مر السنوات كل كانت له بصماته الخالدة، حضرت منهم ـ طالباً ـ الدكتور علىّ الدين هلال الذى كان برنامجه «كلام فى السياسة» حافزى الأول للالتحاق بالكلية، والدكتور كمال المنوفى رحمه الله كان وكيلاً للكلية حينما كنت طالباً بها ثم انتقل إلى مقعد العمادة ووضع لبنة جديدة فى تطوير الكلية. وكان لعمادة كل من الدكتورة منى البرادعى ثم الدكتورة عالية المهدى أثر مهم فى تحقيق مزيد من الدمج للكلية فى الحياة السياسية، ومزيد من التوسّع فى إنشاء وتطوير المراكز البحثية. عميدة الكلية الحالية الأستاذة الدكتورة هالة السعيد نموذج رائع فى الإدارة، ولاؤها للكلية وأبنائها، وحرصها على ريادتهم يضربان للأجيال مثلاً رائعاً فى قدرة المدير الناجح على تحويل مكان العمل إلى بيت للعائلة الممتدة.
شهادتى وإن كانت مجروحة فى كليتى الحبيبة، فالحاجة إلى الإدلاء بها اليوم قرينة جهود حثيثة يستثمرها أبناء الكلية وأعمدتها من أجل تجديد شهادة جودة التعليم والاعتماد، والتى تمنح كل خمس سنوات بعد مراجعة وتدقيق من الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد. وقد شهدت الأيام الماضية اصطفافاً مبهراً لإدارة الكلية وأساتذتها وطلابها وخرّيجيها من أجل رسم الصورة اللائقة بهذا الصرح العظيم، وتشخيصها حية صادقة أمام المراجعين.
ختاماً، لا يجرح شهادتى فى الكلية أنى أحد أبنائها الذين تمنحهم شرف التواصل معها بعد سنوات طويلة من التخرّج، وبعد بضع سنين من حصولى على درجة الدكتوراة منها..لكن ربما لأنى أعيش حالياً فى أسرة من خرّيجيها..فقد تزوّجت من إحدى خريجاتها، وتعلّمت فيها على أحد أعظم أساتذتها الأستاذ الدكتور أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية والد زوجتى الغالية، ورحم الله والدتها العزيزة الدكتورة عزة وهبى، التى تخرّجت فى ذات دفعة زوجها، وأعز الله ابنهما الدبلوماسى الأستاذ محمد يوسف شقيق زوجتى الذى تخرّج فى الكلية وتزوّج منها بدوره.. والقائمة من الأقارب والأصدقاء تطول.
د/ مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر