المدرس الثرى ترك أمواله ببلاده: واجهنا الموت 4 مرات.. و«أردوغان» نشر التعصب.. و«الأسد» خلق التربة الصالحة لتنبت «داعش»
«قسطنطين»: اللاجئون سبب المعاناة وليست البيروقراطية الألمانية.. والتعصب الديني والازدواجية سبب فشل الاندماج
«في رحلة اللجوء، كل يبحث عما افتقده في وطنه».. ربما تكون قصة «قسطنطين»، الأب السوري الكردي اليزيدى، هي أكبر دليل على صدق هذه المقولة، فالرجل الثري، ترك أرضه الشاسعة في محافظة الحسكة -التي تقع شمال شرق سوريا وتشتهر بالزراعة-، وهرب من الاضطهادين الديني والسياسي، باحثاً عن دولة متسامحة لا تعاقبه على كونه أقلية، كما يرى النظام السورى، فهو كردى ويزيدى في آن واحد.
ألمانيا، كانت طوق الخلاص لـ«قسطنطين»، الذي اضطر للرحيل من سوريا بعدما علم بوجود نية لاعتقاله فقط لأنه لم يشارك في المظاهرة المؤيدة للرئيس السوري بشار الأسد، لتبدأ معاناته مع رحلة الهروب من الاضطهاد.
في بداية الحديث معى، كان «قسطنطين» متحفظاً، فتحت الحوار معه وهو يحمل تخوفات مسبقة من أن أكون من المتعصبين دينياً الذين لا يقبلون الحوار حول مفاهيم الدين، فهو يزيدي قادم من منطقه محاصرة بالأكراد والسنة والشيعة، وكلهم ينظرون لأمثال قسطنطين على أنه ليس منهم وبالتالي عانى كثيرا من الاضطهاد بخلاف اضطهاد الدولة لمن يدينون بدينه.
يقول «قسطنطين»: أنا لست ضد الإسلام، وأرفض من يهاجمونه، لكني أيضاً ضد التعصب والاستخدام الخاطئ لمفاهيم الدين الإسلامي والتى تتسبب فى اضطهاد كل من هو على شاكلتهم كما يفعل الدواعش، والحقيقة أن النظام السوري هو أول من خلق التربة الصالحة لتنبت نبته الدواعش، بسبب التهميش والتجريف الثقافي المقصود والمدروس للشعب السوري، وفي الماضي كانت الأديان والعصبيات المختلفة متعايشة معاً بلا أزمات، لكن النظام هيأ بطريقة ممنهجة الأرض للصراعات والتناحر.
«قسطنطين»، الذي يعمل مدرسا بالمرحلة الابتدائية، كان يعى جيداً لتنامى «شبح التطرف» في بلاده، لذا كان يحرص على تكوين علاقات جيدة بدوائر السلطة والجهات السيادية، ولم يفكر يوماً في الخروج من بلاده حتى بعد تأزم الأوضاع، إلا أن عدم مشاركته في المظاهرات المؤيدة للنظام، وضعه هذا في موضع المناهض وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الملاحقة، فقرر الهرب إلى ألمانيا .
يقول «قسطنيطين»: أنا كنت كردي يزيدى، وفي سوريا إذا كنت كردي فهذه مشكلة، وإذا كنت كردي يزيدي، فأنت أمام أزمة، فالأكراد لا يعترفون أنك منهم، والمسلمون والدواعش يرونك كافراً.
وعن مستوى معيشته ببلاده يقول: «أنا كنت ثرياً في سوريا كان عندي 30 هكتاراً (الهكتار يساوى 10 آلاف متر مربع)، إلا أننى لم استطع جمع مدخراتي أثناء الهرب رغم أنني لم أضع أموالاً بالبنوك حيث ان هذا لم يكن متعارف أو محبباً.. والذهب كان أفضل دائماً».
وعن خروجه من سوريا، يقول: «جاءنى اتصالاً من ضابط بالجيش السوري ينصحني بضرورة الخروج من البلاد، وفي أول الأمر اعتقدته يمزح، لكن بعدها ألح علي في الهرب من سوريا، وداهمت قوات الأمن منزلي، وعلمت أن الأمن يلاحق كل من لا يشارك بالمظاهرات الموالية لبشار»، وتابع: نحن (الأكراد اليزيدين) نعيش فى 4 قرى فقط، ونخشى دوماً من تفجر المعارك الدينية مع المسلمين، لذا نتعامل بحذر على المستويين الديني والسياسي، وقرارنا الأربعة لم تتدخل في «العراك»، ومشكلتنا أن النظام اعتبرنا أكرادا، في حين اعتبرنا الأكراد المسلمين «يزيدين»، لذلك حاولنا الحفاظ على استقلاليتنا، وعدم التورط لصالح أي طرف.
وتابع: كان من الصعب لى ولاسرتى الاختباء بالحسكة، فقررنا الهرب لتركيا مؤقتاً، حتى تهدأ الأوضاع، وأعود أنا وزوجتي وأبنائي الأربعة إلى بلادنا، لكن الأمور تدهورت، فقررنا الهرب لأوروبا، وغامرنا في تلك الرحلة التي صادفنا فيها الموت مرات ومرات، و كان سوء الحظ للأسف ملازماً لنا عدة مرات، حتى تمكنا أخيرا من الوصول إلى ألمانيا التي يوجد بها واحده من أكبر الجاليات «اليزيدية»، وكانت من أول الدول التى قصدها اليزيدين هرباً من اضطهاد النظام .
وعن سبب عدم بقائه في تركيا، يقول: «للأسف لقد نشر أردوغان عن جداره الأفكار الدينية المتطرفة وحتى بشكل مبالغ فيه، والمحافظات الكردية مستهدفة بشكل مدروس، ففي المنطقة التى يعيش بها الأكراد فى تركيا تغلق المدارس، وانتشر الفقر والبطالة ضمن مخطط لنشر الجهل، لذلك لم أستطع البقاء في تركيا وقررت الهرب لأوروبا.
ويتابع: تركيا لا تفضل بقاء اللاجئين السوريين على أرضها، خاصة من ينتمون إلى عشيرتي (اليزيدين)، والمهربون يأتون إليك تحت عيون الأمن على المقاهي ويعرضون خدماتهم ويتفاوضون معك كما لو كنت تشترى خياراً فى السوق، وبعدها تبدأ رحلة الهروب التي تشبه أفلام السينما، في البداية ركبنا «بوت/مركب» 12 متراً مع 30 شخصاً هو وعائلتان من أفغانستان وعائلة عراقية، ومعهم 10 مهربين يحملون أسلحة، لينقلونا من أزمير إلى اليونان، وجلس كل اثنين في حضن بعضهما، لأنه لم يكن هناك سنتيمتر واحد فاضي في المركب، واستغرقت رحلتنا 16 ساعة، قبل أن يكشفنا خفر السواحل اليوناني، عند ظهورنا قاموا بإطلاق النار علينا وأجبرنا على العودة لتركيا، وتمنينا أن يأتى البوليس التركي لأخذنا وانتشالنا من العذاب والماء والملوحة والبرد والشتات الذى أصبحنا فيه.
وعلى هذا قد قام «قسطنطين» وأسرته بـ4 محاولات، وفي كل محاولة يكونوا أقرب الموت فيها من الحياة ومع ذلك يرجعوا المرة المقبلة ويعاودوا المحاولة مرة أخرى: «لم يكن لدىنا خيار، وفي المرة الرابعة تمكنا أخيراً من الوصول إلى اليونان»، ويتابع: «كانت كل محاولة بمثابة محاولة للموت، وفي المحاولة الأخيرة الناجحة قال المهرب، إنه ضحى بمركبين حتى يستطيع المركب الكبير الذي كنا على متنه الوصول، لدرجة أن نصف ركاب المركبين الآخرين غرقوا، لكن القصص التي سمعنا بها في اليونان كشفت كم كنا مغفلين وكم تلاعب بنا المهربون الأتراك».
وأضاف: لم نستطع البقاء باليونان، واختلفت الخيارات والطرق وطبيعة المهربين، وظللت على مدى 9 أشهر أحاول الهرب دون جدوى، حتى تمكنت بعد فترة من إرسال أبنائي وزوجتي على مراحل، إبني الأكبر وضعته في شاحنه من اليونان إلى إيطاليا، ومنها للنمسا ثم ألمانيا، وباقي أبنائي أرسلتهم عن طريق عائلات مختلفة ثم أتيت أنا بالطائرة إلى ألمانيا».
وتابع: الجالية الإيزيدية في ألمانيا استقبلتنا جيدا، رغم أني لم أكن في حاجه لدعم، والحكومة الألمانية استقبلتني جيدا ومدت يدها لمعاونتي، لكن أنا لي 10 أشقاء في انحاء ألمانيا ولم يعد لدي مشكلة مالية، وبشكل شخصى يؤكد على انه لا هو ولا احد افراد اسرته او عائلته قد تعرضوا لأي حوادث عنصريه خلال السنتين والنصف التى قضوها هنا بل العكس صحيح، لكني سمعت من البعض عن تعرضهم لحوادث عنصرية وسوء استقبال، لكنها تبقى حالات فردية لا يجوز تعميمها.
وعن الاندماج العربي في المجتمعات الأوروبية يقول «قسطنطين» الذي يعمل كمتطوع لمساعدة اللاجئين: «المسلمون القادمون من الدول العربية عندهم ازدواجية في الشخصية، لأنهم يعتقدون أنهم الأفضل، ويصابون بصدمة لأنهم يسافرون إلى دولة أجنبية يعتبرونها كافرة وهذا يختلف عند اليزيدي، فالمسلم أمام خيارين إما ترك ثقافته أو التمسك بها، والثاني يمكن أن يأخذه للتطرف».
وتابع: «القادم من المجتمع الشرقي يشكو من البيروقراطية، والألمان يحاولون استغلال الوضع ودمج اللاجئين لكن العدد الكبير يصعب الوضع، ويبدو أن الألمان استفادوا من التجربة الفرنسية التي لم تهتم كثيرا بدمج الجالية العربية بها، ما أدى لمشاكل أمنية كثيرة»، وأكد: «خلال عام من الاستقرار، اندمج أبنائي كثيراً، لكن عائلتي ليست مثالاً فمشاكلنا كعرب في الاندماج هي مشكله الفكر الدينى، وعلينا الاستفادة من ايجابيات المجتمع الذي انتقلنا إليه».
ورأى «اللاجئ السوري» أن البيروقراطية الألمانية لا تشكل أزمة، وقال: «شكاوى اللاجئين سببها طبيعتنا نحن، وليس التزام الحكومة بالقوانين، وأنا ضد من يقولون أنهم يريدون العودة، لأنهم إذا وضعوا على سلم الطائرة أشك في أنهم سيعودون، والجالية السورية لديها ميزات إيجابية، لكن بشكل عام الازدواجية بسبب الدين أزمة كبيرة، لذلك لابد من أن نندمج سريعاً ونكسب الوقت.
ورداً على سؤالنا عن سبب عدم محاولته اللجوء للدول العربية، قال: «الأنظمة العربية لا تختلف عن بعضها، وتقوم على القمع والاضطهاد، والتعايش السلمي الذي كان موجوداً بمصر وسوريا والعراق، سببه الضغط الأمني المخابراتي فقط، ولو كان هذا التعايش عن وعي لم نكن لنسمع عن الحوادث الطائفية، وحتى النظام التركي يتم الترويج له بالأموال السعودية على انه نظام علماني على عكس الحقيقة، ولو نظرت إلى القسم الشمالي الشرقي من تركيا لوجدته يعانى من انتشار الفقر والجهل والتعصب الديني بصورة منهجية.
«جاكلين»، زوجة «قسطنطين» تحدثت بصعوبة بالغة معنا، لخوفها من اضطرارها لتذكر كل ما مرت به مع أبنائها في محاولات الخروج من تركيا، وقالت: «كلما فشلت محاولة طلبت من زوجي العودة لسوريا، لكنه أجبرنا على الاستمرار بسبب الأولاد، لأن العودة كانت أخطر، ولم يكن بيدي شيئا سوى أن أشارك أبنائي البكاء».
إبراهيم، ابن «قسطنطين»، 8 سنوات، يقول: دخلت المدرسة من سنتين، وليس لدي أى مشكلة، والألمان يعاملونني بطريقة جيدة، ولدي 5 أصدقاء 3 منهم ألمان وأزورهم للعب معهم»، إلا أنه رد على سؤالنا «لو رجع الزمن هل كنت ستدعم قرار القدوم لألمانيا»، قائلاً: «لا هاقول لبابا نبقي في سوريا كنا في بيت بجنينة».. ويتابع بعد صمت قصير: «واحشني جدي وجدتي، وأبكي عندما أتحدث معهما عبر الهاتف».