اقتصادنا يا تعبنا….. الحلقة الـ 20..
كوريا الجنوبية.. معجزة اقتصادية حتى 1997 بلا صندوق… (أ)
اعتماداً على مبادراتها الذاتية الإصلاحية اتخذت كوريا قرارات استراتيجية كبرى لتنتقل من أشد البلدان فقراً، حيث لم يزد متوسط نصيب الفرد من الدخل القومى على 87 دولاراً أمريكياً فى عام 1962، لتصبح قوة اقتصادية واعدة فى فترة استغرقت 26 عاماً كانت كفيلة بتحقيق تنمية اقتصادها..
فبعد أن كانت تصنف ضمن البلدان ذات الفرص المنخفضة للتطور بسبب مساحة أرضها الصغيرة حيث يحوطها جبال كثيرة وبسبب قلة المصادر الطبيعية فيها. أصبحت كوريا الجنوبية اليوم من اقوى الاقتصادات العالمية ولها تأثير كبير فى القطاعات المختلفة مثل: بناء السفن- الإلكترونيات- السيارات- والمنسوجات- والحديد والصلب. وبذلك احتلت كوريا الجنوبية المركز العاشر لأكبر اقتصاد فى العالم، وذلك فى عام 2006، وذلك من حيث إجمالى الناتج القومى والحجم التجاري، وظل الاقتصاد الكورى فى نمو مستمر حتى بلغ متوسط دخل الفرد فيها 20 ألف دولار سنوياً، وذلك فى عام 2010 (25 ألفاً فى 2016). وزاد إجمالى الدخل القومى الكورى من 2.3 مليار دولار فى سنة 1962 إلى 680.1 مليار دولار فى عام 2004، وارتفع الى 1007 مليارات دولار أمريكى عام 2010، تُعادل 1459 مليار دولار بمقياس «تعادل القوة الشرائية» PPP.
فقد أسهمت استراتيجية التنمية الاقتصادية الكورية، التى تعتبر الصادرات بمثابة محرك للنمو الصناعي، إلى حد كبير فى التحول الكبير للاقتصاد الكوري. فكان الاعتماد على اقتصاد السوق، كطريق للتنمية الاقتصادية. ولم تكن المشكلة فى اختيار نظام اقتصاد السوق، وإنما كيفية تطبيقه، وفى أسرع وقت ممكن.. ووضعت البرامج والخطط التنفيذية لذلك.. مرتبطة بمعايير قياس الأداء.
كما استطاعت بفضل اتباع سياسة التوجه للخارج وتشجيع الصناعات الموجهة للتصدير، زيادة حجم الصادرات من 60 مليون دولار عام 1962 إلى 254 مليار دولار عام 2004، بمعدل زيادة سنوية مقدارها 40%. وارتفعت احتياطيات كوريا من العملات الأجنبية من 8 مليارات دولار عام 1998 إلى 199 مليار دولار عام 2004، و305 مليارات دولار عام 2011. كما حقق الاقتصاد الكورى فى عام 2004 فائضاً فى الميزان التجارى بلغ 29.75 مليار دولار، و48.4 مليار دولار عام 2010. هذا وقد شملت الواردات الرئيسية الكلية على المواد الخام التصنيعية مثل البترول الخام، والمعادن الطبيعية، والماكينات، والمعدات الإلكترونية، ومعدات النقل، والبضائع الاستهلاكية، والأغذية… الخ.
من اقتصاد مدمر إلى اقتصاد معمر
فبعد أن تحررت شبه جزيرة كوريا من الاستعمار اليابانى الذى دام لمدة 35 عاماً (1910- 1945) وخرجت من الحرب العالمية الثانية مقسمة الى جزأين: جنوبى تحت حماية الولايات المتحدة، وشمالى تحت حماية الصين والاتحاد السوفيتي.. وقد ادى تقسيم كوريا إلى العداء والتناحر بين الدولتين ونشوب حرب ضروس بينهما لمدة ثلاث سنوات (1950-1953)، أسفرت عن مقتل نحو 3 ملايين كورى بين عسكرى ومدني، وتدمير البنية التحتية ومعظم المنشآت الصناعية فى كوريا الجنوبية. وتمخضت الحرب عن حرمان كوريا الجنوبية من الثروات الطبيعية ومن معظم الصناعات الخفيفة والثقيلة التى أقيمت إبان الاحتلال الياباني، التى تركز معظمها فى الشمال.
وكان الكوريون فى الخمسينيات يعتقدون أن تنمية الاقتصاد مهمة مستحيلة، لأن الدولة غير منظمة إطلاقاً. وفى زيارة للبنك الدولى عام 1957 لكوريا قال الخبراء: «لا يوجد أمل لتطوير هذا البلد لمدة 100 عام على الأقل، هذه الدولة مدمرة تماماً من جراء الحرب مع كوريا الشمالية»…
فبعد الحروب والدمار الذى حل بكوريا الجنوبية وبعد أن كان اقتصاداً تقليدياً يعتمد على الزراعة، تلقت كوريا معونات اقتصادية، خصوصاً من الولايات المتحدة، والتى كانت ضرورية لإنعاش اقتصاد البلاد الذى دمرته الحرب. وفى أقل من ثلاثة عقود، استطاعت كوريا تحقيق ما يسمى «المعجزة الاقتصادية على نهر الهان»، هذه المعجزة وما تبعها من خطوات شاقة كانت بمثابة نقطة تحول فى التاريخ الكورى الحديث.. وأعطت حكومة كوريا الجنوبية الأولوية لتطوير الصناعات التحويلية، التى كانت محفزة بنمو معدل الصادرات. وعلى مدى جيل واحد، نمت كوريا الجنوبية كواحدة من إحدى أفقر دول العالم إلى إحدى أكثر قواها الصناعية الواعدة.. فحققت معدل نمو سنوياً بلغ فى المتوسط 8% من عام 1965 الى عام 2004. كما أنها حققت فى نفس الفترة استثمارات بلغت نسبتها فى المتوسط نحو 30% من الناتج المحلى الإجمالي.
وبالرغم من نجاح التصنيع الموجه للتصدير والذى حول كوريا إلى دولة صناعية حديثة، فإن الضعف الهيكلى ظهر فى عملية النمو المركز. هذه الضعف انكشف فجاة وبشكل خطر فى نهاية عام 1997، عندما عانى الاقتصاد الكورى أزمة نقدية، وواجه صعوبات مالية حادة. ومن أجل معالجة الضعف الذى أدى إلى الازمة النقدية كان على كوريا أن تجرى إصلاحاً هيكلياً شاملاً لاقتصادها.
إن المعجزة التى حققتها كوريا الجنوبية ليست إلا تعبيراً إلا عن مدى الجهد والإرادة التى قامت بها الدولة (حكومة وشعباً وقطاعاً خاصاً)، فما حدث ليس عملاً خارقًا، ولكنه حصيلة جهد ومثابرة وصبر وإصرار لم يسبق له مثيل!
وللحديث بقية فى الحلقة القادمة لنتحدث عن التحولات التى شهدها الاقتصاد الكورى خلال الفترة من 1962 حتى 2005..كانت كفيلة بتحقيقها تلك المعجزة.
وما نبغى الا اصلاحا..