عندما شرعت فى كتابة هذا المقال استحضرت فى ذهنى كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذى ألفه عبد الرحمن الكواكبي. ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب العربية فى القرن التاسع عشر حيث يشخص ما يسميه داء الاستبداد السياسى ويصفه باستبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل. وبالمثل، أحسب أن الفساد الذى استشرى فى شتى بقاع الأرض قد استبد بعقول «العباد» وأصبح يجرى كالدم فى العروق.
ليس للفساد تعريف متفق عليه عالمياً نظراً لاختلاف القيم والبيئة الاجتماعية والقانونية بين الدول. إلا أن بعض التعاريف أصبحت مقبولة الاستخدام على نطاق واسع، مثل تعريف البنك الدولى للفساد انه «إساءة استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة». وهناك تعريف أخرلمنظمة الشفافية الدولية حيث تعتبر الفساد هو «إساءة استغلال السلطة المخولة لتحقيق مكاسب خاصة». وهذا التعريف شمل الأموال العامة والخاصة.
سوف أركز فى سياق هذا المقال على أسباب الفساد لأن بدون فهم عميق وإدراك واعٍ للأسباب، يكون من الصعب اقتراح حلول لمواجة هذه الظاهرة التى أصبحت تؤرق الحكومات حول العالم. وفى هذا الصدد، سوف أسترشد بـ «الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، 2014 – 2018» التى أعدتها اللجنة الوطنية الفرعية لمكافحة الفساد. تتناول «الاستراتيجية» بالتحليل أسباب الفساد وتبويبها وفقاً لتجانس كل مجموعة من الأسباب. وسوف أتناول بالعرض ملخص لهذه الأسباب فيما يلي:
أولاً: أسباب اقتصادية
تشير بعض المقاييس المستخدمة فى قياس درجة الفقر إلى ارتفاع مستوى الفقر فى مصر مما يشير إلى عدم المساواة مع استمرار التدهور بفعل تراجع معدل النمو وارتفاع مستوى البطالة. وقد نتج عن غياب العدالة الاجتماعية وعدم عدالة توزيع الدخول والثروات إلى انخفاض مستوى الدخول وتفاوتها وتركز الثروة فى أيدى فئة تجيد أكثر من غيرها استغلال الأنشطة التى لا تتسم بالشفافية. ونتيجة لعدم قدرة شريحة كبيرة من المواطنين تلبية حاجاتها الأساسية من السلع والخدمات، لجأ البعض منهم إلى اتباع الممارسات الفاسدة كوسيلة لإشباع احتياجاتهم.
من أهم أسباب انخفاض مستويات الدخول فى مصر تدنى المرتبات والأجور فى الجهاز الإدارى فى الدولة، والارتفاع المستمر لمعدلات التضخم مما ينتج عنه انخفاض القيمة الشرائية للنقود حتى مع الزيادات فى الرواتب. كما أدت الممارسات الاحتكارية للسلع والخدمات إلى ارتفاع الأسعار دون مبرر اقتصادي، بالاضافة إلى ذلك، نمو ثقافة الاستهلاك فى المجتمع بما لا يتناسب مع مستويات الدخول.
يتسم الإنفاق الحكومى فى مصر بالمبالغات غير المقبولة فى دولة تمر بأزمات اقتصادية طاحنة. وتؤدى المبالغة فى الإنفاق الحكومى إلى توجيه موارد الدولة توجيهاً خاطئاً مما ينتج عنه آثار سلبية مثل عدم توجيه الموارد بالحجم الملائم لمشاريع تعود بالنفع العام على المواطن فى مقابل الإسراف غير المبرر على منافع للمسئولين مثل شراء السيارات والتجهيزات المكتبية الفاخرة. كما أن انخفاض الانفاق الحكومى على مشروعات التنميه يؤثر على دخل الفرد وما يرتبط بذلك من زيادة فرص وقوع الفساد.
أما الطامة الكبرى فهى الصناديق الخاصة، وهى مجموعة من الرسوم المالية التى يدفعها المواطن لحساب صناديق تتبع عدة جهات وتكون خارج الموازنة العامة للدولة ولا يتم عرض تفاصيلها على مجلس النواب. تمتد سلطة انشاء هذه الصناديق إلى المحافظين ورؤساء المراكز والقرى مما يؤدى التوسع فى انشائها إلى صعوبة حصرها ويجعلها عرضة لجرائم الفساد.
ثانياً: أسباب ادارية
تعانى الهياكل التنظيمية للجهاز الحكومى والادارى للدولة من قصور مما يجعلها لا تلبى احتياجات المواطنين من الخدمات الحكومية بشكل ملائم، ويجعل المواطن أكثر استعداداً لدفع مبالغ غير مصرح بها فى سبيل انجاز معاملته أو الحصول على الخدمة بشكل افضل.
وفى نفس السياق، تؤدى البيروقراطية الحكومية وتعقد الإجراءات إلى فتح الباب على مصراعيه للرشاوى فى سبيل ابداء المرونة تجاه بعض الإجراءات المعقدة، أو الحصول على معاملة متميزة لتجنب التكدس فى منافذ تقديم الخدمات الحكومية.
ويؤدى ضعف الرقابة الداخلية على الأجهزة الحكومية إلى وقوع الممارسات الفاسدة. يتمثل أهم مظاهر ذلك الضعف فى عدة عوامل منها عدم مراعاة تضارب المصالح لدى المسئول الذى تعرض عليه تقارير الرقابة الداخلية، وعدم توقيع عقوبات فعالة ورادعة فى حالات المخالفات، وغياب وسائل إبلاغ الموظف عن الممارسات الفاسدة.
ونتيجة للقصور فى نظم التعيين والترقية واستخدام الوساطة والمحسوبية فى الجهاز الإدارى للدولة، فقد تكدست الجهات الحكومية ببطالة مقنعة وأصيبت بترهل ادارى نتج معه خلق وظائف ومستويات ادارية دون مبررات موضوعية بما يزيد من تعقيد الإجراءات الحكومية، وبالتالى خلق مناخ ملائم لجرائم الفساد.
وكان لتدنى المرتبات والأجور فى الجهاز الإدارى للدولة العامل الأكبر فى تفشى الفساد بمختلف أنواعه مثل الرشوة والتربح والاستيلاء على المال العام. ويدعم أسباب الفساد فى هذا السياق عدم ربط الأجور المتغيرة بالأداء الفعلى حيث تمنح الكثير من الجهات جميع العاملين أجوراً متغيرة متساوية بغض النظر عن الأداء.
ثالثاً: اسباب قانونية
ينشط الفساد فى ظل عدم وجود تشريعات ملائمة لحماية الشهود والخبراء والمجنى عليهم والمبلغين. كما أن طول الإجراءات القانونية والقضائية يضعف من قوة الردع القانونية تجاه المفسدين ويزيد من فرص هروب المتهمين إلى الخارج قبل محاكمتهم أو ضياع الأدلة أو تدميرها أو التأثير على الشهود. كل ذلك يرسخ شعورا عاما بعدم جدية الإجراءات القانونية لمكافحة الفساد، وما يترتب على ذلك من تأخر استعادة الحقوق المسلوبة واسترداد الأموال محل الجريمة.
ويؤدى التراخى فى تنفيذ الأحكام الصادرة فى جرائم الفساد وضعف العقوبات المقررة إلى عدم تحقيق الردع المطلوب مما يؤدى إلى زيادة معدل جرائم الفساد نظراً لضعف العقوبات. كما أن تعدد القوانين واللوائح المنظمة لعمل الجهات الحكومية وتداخلها يؤدى إلى ثغرات عند التطبيق مما يحفز ممارسات الفساد.
(يتبع فى الجزء الثاني)
[email protected]