أيام تفصلنا عن إقرار مجلس النوّاب المصرى لقانون حماية المستهلك، الذى ينتظره الكثيرون آملين فى ضبطه لكثير من مظاهر عشوائية الأسواق فى مصر. الملامح الأولية لما أسفرت عن مناقشات الأعضاء مع رئيس جهاز حماية المستهلك اللواء عاطف يعقوب تشير إلى اتجاه نحو تعزيز أهمية المعلومات المتعلّقة بالسلعة والخدمة فى الأسواق، وضمان دقّتها وشمولها للمواصفات والصلاحية والسعر شاملاً الرسوم والضرائب والخدمات الإضافية، كذلك يستشف من المناقشات شمول مشروع القانون على مواد تضمن للمستهلك حقه فى الشكوى وسرعة البت فيها واسترداد مستحقاته مع التعويض المناسب.
وربما أمكن الشارع المصرى الاستفادة من تجربة حديثة لإصدار قانون جديد لحماية المستهلك فى المملكة الأردنية الهاشمية. وجدت هذا القانون جيداً للغاية وشاملاً لكثير من النقاط المهمة، التى تمس مصلحة المستهلك، وتعمل على تعزيز الأيدى الخفية للدولة فى الأسواق، دون مساس بآلية عمل العرض والطلب وجهاز الثمن فى اقتصاد السوق. القانون الأردنى ينظر أيضاً بعين الاهتمام إلى حوكمة منظومة حماية المستهلك ككل، وذلك عبر تشكيله لمجلس حماية المستهلك الذى يرسم السياسة العامة لضبط الأسواق، ويضع حدود الأدوات الرقابية للدولة، مع إفساح مجال لتحديد الأسعار التوازنية من خلال تقاطع منحنيى العرض والطلب لكل سلعة وخدمة.
تشكيل المجلس من عدد من خبراء الاقتصاد المستقلين، جنباً إلى جنب مع التنفيذيين أمر مهم لأغراض الحوكمة، حتى تتجرّد السياسة العامة ومن قبلها الرؤية العامة لمنظومة حماية المستهلك من أهواء التنفيذيين، وتنضبط بقواعد علم الاقتصاد من جهة، واحتياجات المواطن من جهة أخرى، خاصة إذا لعب المجلس النيابى دوراً فاعلاً فى مراقبة الأداء.
الاحتكاك الدولى لقيادات جهاز حماية المستهلك المصرى كان متعدد الثمار. فقد استطاع المسئول المصرى عن هذا الملف إدراك الأهمية البالغة لحماية حقوق المستهلك، وتوفير الضوابط والضمانات الرامية إلى تعظيم تلك الحقوق وصيانتها، من واقع مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015، والتى أسفرت عن إصدار أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، والتى جاء فى إطارها وعلى هديها رسم الملامح الأساسية لرؤية مصر 2030. كل ذلك يصب فى مصلحة تحفيز الطلب الفعّال داخل المجتمع، وتشجيع الاستثمار الأجنبى (المسئول) لضخ الأموال داخل تلك الأسواق المحكومة بضوابط تحمى المستهلك والمحوكمة بمستويات مختلفة وعبر آليات متعددة الدرجات.
جهاز حماية المستهلك يداً بيد مع جهاز حماية المنافسة ومنع المنافسات الاحتكارية، وعدد من الأجهزة الرقابية الأخرى يمكنهم صناعة مناخ آمن ومستقر للمستهلك المحلى والأجنبى المقيم، يمكنهم المساهمة فى خلق مناخ استثمارى مشجّع وجاذب للتدفقات، ويمكنهم أيضاً السيطرة على وحش الأسعار التى بلغت فى أحدث معدلات للتضخم صادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء 29،6% بنهاية شهر يناير الماضى مقارنة بيناير 2016، خاصة إذا كان الارتفاع المتوالى فى الأسعار مدعوماً بغياب المعلومات، وتعمّد إخفائها عن المستهلك، وشيوع الاحتكارات والممارسات الاحتكارية فى التسعير وتعطيش السوق، والغش التجارى وبيع المنتجات غير الصالحة للاستهلاك الآدمى، والإغراق بسلع من أسواق أجنبية، إلى غير ذلك من ممارسات لا تقبلها أكثر الأسواق انفتاحاً، ولا أكثرها حرصاً على حرية عمل آليات ومقومات العرض والطلب.
أرجو أن ينتهى البرلمان قريباً من سن القانون، وأن ننتقل إلى ما هو أهم من التشريعات، إلى العقبات الحقيقية فى الأسواق، علماً بأن أجهزة الرقابة على اختلاف مهامها تظل حلقة واحدة مهمة فى سلسلة كبيرة من أصحاب المسئولية، على رأسهم مقدمو خدمات التعليم والصحة وسائر الخدمات والسلع الأساسية التى لا تتمتع بمرونة طلب سعرية (لا يملك المستهلك التحوّل عنها لمجرد ارتفاع سعرها)، والتى تقع مسئولية تنظيمها أولاً على عاتق القطاعات العنية بها كل حسب تخصصه، لذا نرجو أولاً أن تهتم وزارة التربية والتعليم بالخدمات المقدّمة عبر المدارس، وتهتم وزارة الصحة بخدمات المستشفيات والعيادات والمستوصفات، وتهتم وزارة التموين والتجارة بالسلع التموينية، كل فى مجاله وعبر أدواته التنظيمية والرقابية كخط دفاع أول، ثم يأتى دور خط الدفاع الثانى المتمثّل جهات الرقابة المشار إليها سابقاً، والتى تعمل وفق آلية أقرب إلى آلية عمل المراقب الداخلى الذى يراقب على قائمة من متطلبات الجودة ويهتم باستيفائها.
د/ مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر