لا يوجد شعب فى العالم يتقبّل الغلاء بغير استياء ونفور، لكن قراءة المشهد العام تحملنا على تقييم ما يسمّى «تكلفة الفرصة البديلة»، فبديل هذا الغلاء الكبير ربما كان تضخماً جامحاً hyper inflation كالذى حدث فى فنزويلا، وحمل أهلها على وزن النقود لشراء المستلزمات عوضاً عن عدّها!
لا أقول ذلك بغرض الترهيب وإيمانى أن الشعوب التى ترضى بحالها خشية أن تسوء أوضاعها هى شعوب محدودة الأفق والطموح سجينة الأمر الواقع، بل علينا التطلّع للأفضل دائماً، وهذا الأفضل يقتضى منا تغيير الكثير من أنماط الإنفاق التى نشأنا عليها (سواء الإنفاق الاستهلاكى أو الاستثمارى)، وتحرّى الإنتاجية فى أعمالنا وليس قضاء عدد من الساعات فى المكاتب، وكما يقول المولى تبارك وتعالى: «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»..
التطلع إلى الأفضل يجب أن يقترن بواقعية تحليل وقراءة الوضع الاقتصادى محلياً وإقليمياً وعالمياً، وتقييم صحيح للموارد وكيفية استغلالها بصورة أفضل وفى مقدمة تلك الموارد البشر.
قرارات الإصلاح الاقتصادى تحتاج، دائماً، إلى قرارات بديلة بل رؤى بديلة تطرح للنقاش المتخصص، تلك الرؤى المتنافسة يصب اختلافها فى مصلحة المواطن، ويغلب على أمرها ما يحقق النفع الأكبر.. لكن صياغة رؤى وسياسات بديلة تتطلب أحزاباً قوية حاضرة فى المشهد العام تطرح نفسها على المجتمع كبديل أفضل.. نحن لن نخترع العجلة وإلى أن توجد تلك الأحزاب القوية ستظل الحكومة، أي حكومة، برؤيتها الواحدة صاحبة الحل الأوحد!.
لا أجد غرابة فى استمرار تقلّب وارتفاع الدولار بل توقعته قبل التعويم وبعده؛ لأن قرار التعويم يظل مرتبطاً بالجانب النقدى من الاقتصاد، أما الاقتصاد الحقيقى فعليه أن يتحرك بقوة ليحقق أهداف زيادة المعروض الدولارى فى الأسواق، ولا بديل فى ذلك عن الإنتاج ثم الإنتاج ثم الإنتاج.. من السلع والخدمات حتى يتم إشباع السوق المحلية وتشبّعها بالمنتج المحلى ثم تحقيق فوائض تصلح للتصدير.. هذا التطوّر الكمّى يليه تحسّن نوعى فى جودة المنتجات خاصة بتطبيق معايير الجودة والتى تفرضها متطلبات التصدير على أقل تقدير.. إذا ما تشبّعت السوق المحلية بالمنتجات المصرية فسوف تقل بالتأكيد فاتورة الاستيراد البالغة 90 مليار دولار سنوياً بما يقلل الطلب على الدولار. ومن ناحية أخرى، فإن التصدير يأتى بالعملة الصعبة ويجعلها وفيرة فى الأسواق فلا تتحول إلى أزمة ولا تتحوّل إلى سلعة يخزّن الناس فيها فوائضهم.
معظم القرارات الحكومية وقرارات المركزى كانت تصب فى اتجاه حمل الناس على التخلّى عن الدولارات التى بحوزتهم وقد نجحت إلى حد ما لكن ماذا بعد؟! هل يطبع المواطن الدولار فى بيته؟! بالطبع لا، لكن مصادر العملة الصعبة معروفة، ولا نملك أن نحرّك فيها ما يتعلّق بعائدات قناة السويس التى تدور حول 5.5 مليار دولار وترتبط بحجم التجارة العالمية وبدائل الملاحة وأسعار النفط!! لكن تحويلات العاملين فى الخارج يمكن تنميتها عبر إعادة الثقة إلى الجهاز المصرفى، واستقرار قراراته التى تقلّبت كثيراً فى عهد المحافظ السابق، وكذلك يمكن العمل على زيادة الاستثمار لجذب مزيد من التدفقات الدولارية، لكن يظل الإنتاج من السلع والخدمات وخاصة خدمات السياحة العامل الأبرز والأهم لتوفير العملة الصعبة.
لا أملّ أبداً من تكرار مطلبى بأن تُنشأ منظومة متكاملة لإدارة المخاطر المؤسسية. إدارة المخاطر هى عملية مستمرة وليست ضربة حظ، وتتطلب إدراكاً لضرورة اتصال أى هدف فى الوجود (حتى هدف البقاء نفسه) بعدد من التهديدات التى يجب أن تتعامل معها حتى تحقق أهدافك لا أن تتجنبها مهدراً فرصاً كثيرة كان بإمكانك تحقيقها بقليل من الضوابط. هى شعبة من العلوم التى يجتمع فيها العديد من التناقضات، فهى من ناحية ثقافة لازمة مشتركة بين كثير من الناس، يمارسونها فى وجوه معايشهم اليومية بقصد وبغير قصد، لكنها من ناحية أخرى عملية منتظمة دقيقة تفتقر إليها الكثير من المؤسسات، خاصة فى دول العالم الثالث، إما لاعتبارها رفاهة لا تملكها تلك المؤسسات، أو عن جهل بطبيعة العائد المقترن بعملية إدارة المخاطر.
القدرة على إدارة المخاطر بكفاءة تحول دون التعرّض للمفاجأة، تجعلنا على استعداد لأزمات ارتفاع الأسعار ونقص المعروض من النقد الأجنبى وضرب السياحة وتراجع عائدات التجارة، تجعلنا قادرين على إدراك تقلبات الأسواق، مستعدّين لصدمات تراجع الإنتاج الزراعى لعوامل طبيعية أو بشرية. إدارة المخاطر تجعل التوسّع فى الدين العام مشروطاً بالقدرة على التعامل مع مخاطر التعثّر المحتمل فى السداد وتراجع التصنيف الائتمانى لأدوات الدين الحكومية. تجعل اتخاذ قرار من شأنه زيادة رصيد الدين الخارجى بمقدار النصف بقرض واحد مع الجانب الروسى لإقامة محطة طاقة نووية، يمر بعملية دقيقة من دراسة العائدات وبدائل التمويل والاحتمالات المختلفة وآليات التعامل مع كل احتمال، ووضع الأجيال القادمة فى الحسبان.
القدرة على إدارة المخاطر المؤسسية تساعد على وقف نزيف الهدر المؤسسى فى الجهاز الحكومى خلال فترة قياسية، فوضع مستويات من الرقابة على جودة وكفاءة الأداء المؤسسى ليس عملاً خارقاً أو مستحيلاً كما يصوّره البعض، لكنه عمل منظّم تعوزه الإرادة الجادة، ويبدأ بتمهيد بيئة العمل لوضع إطار شامل لإدارة المخاطر المؤسسية، ثم ينتقل إلى تحديد أهداف المؤسسة بمختلف فروعها وقطاعاتها عبر عملية مستقرة، مروراً بتحديد وتعريف المخاطر التى تعترض تحقيق تلك الأهداف، ثم قياسها والتنبؤ بسلوكها بغرض التعامل معها أو تقبّلها، ثم العمل على متابعة آليات وأدوات التعامل مع المخاطر وتصحيحها بصفة مستمرة.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر