تتهافت الصحف المصرية على تلقّف التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية، ثم تسارع إلى نشرها بترجمة انتقائية إلا من رحم ربى. فمنذ إعلان البنك الدولى عن قرب التدشين الرسمى لتقرير أوضاع الاقتصاد العالمى «World Economic outlook April 2017»، بدأت الصحف تتلقّف بيانات واردة فى صفحتين عن أوضاع الاقتصاد المصرى، فمن الصحف من تناول النظرة الإيجابية التى احتوتها الصفحتان، ومنها ما ركّز فقط على الجوانب السلبية.
اللمحة التى تناولها البنك الدولى فى صفحتيه تناولت مؤشرات عامة للاقتصاد الكلى المصرى وتنبؤات لتطور تلك المؤشرات خلال عامين ماليين قادمين.
مادة تلك البيانات التى تم استعراضها ثم التنبؤ بتحركاتها المستقبلية عبر نماذج من إعداد اقتصاديى البنك الدولى، هى ما أصدره البنك المركزى المصرى ووزارة الاستثمار والتعاون الدولى ووزارة المالية، فالبنك لا يملك مصادر تمكّنه من جمع البيانات خلاف ذلك.
تلك إذن مقدمة لا بد منها للوقوف على طبيعة هذا النوع من التقارير والتنبؤات، والحرص الإعلامى على تمييزها عن المصادر المصرية المطعون ضمناً فى حيادها ونزاهتها!
ما الجديد الذى أتت به الصفحتان؟
البنك الدولى يستعرض أهم خطوات الإصلاح الاقتصادى التى اتخذتها الحكومة المصرية ومن ورائها البنك المركزى، ووضع تصوّره لمعدل نمو الناتج المحلى الإجمالى عن العام المالى 2016- 2017 بما لا يزيد على 3.9% مشفوعاً بالاستثمارات العامة وبدء تحسّن الاستثمارات الخاصة مع تحرير سعر الصرف، فضلاً عن تحسّن ميزان التجارة نسبياً.. لكنه يؤكد تراجع معدل النمو عن نظيره فى العام المالى السابق وهو 4.3% لكن هذا التراجع أمكن فهمه فى ظل التداعيات العنيفة لتحرير سعر الصرف دون أى قيود أو استثناءات.
أشار التقرير أيضاً إلى تحسّن ميزان التجارة المنظورة خلال الربع الأول من العام المالى الحالى نتيجة زيادة الصادرات بنسبة 11.2% وتراجع الواردات بنسبة 4.8% عن ذات الربع من العام المالى السابق.
بينما أشار التقرير إلى تراجع كل من عائدات قناة السويس بنسبة 4.8% وتراجع التحويلات الخاصة بنسبة 21.8% عن نفس فترة المقارنة بما ترتب عليه صافى تراجع فى ميزان المعاملات الجارية بما وسّع من العجز فيه من 1.1% العام الماضى إلى 1.4%.
الرهان الذى عقده البنك الدولى على تحسّن كل من الاستثمار الخاص والسياحة لدفع عجلة النمو إلى الأمام وتحقيق معدلات تصل إلى 4.6% و5.3% خلال العامين الماليين 2017-2018 و2018- 2019 هو رهان مشروط باستقرار الأوضاع الأمنية، ومحفوف بمخاطر وتحديات تتصل بالأوضع الاجتماعية المتردّية والحاجة إلى شبكة ضمان اجتماعى شاملة كما ورد بالتقرير، لكنه أيضاً مشروط بتوفير حوافز النمو المختلفة والتى ربما أسقطها أو لم يستفض فيها البنك الدولى فى صفحتيه.
كنت قد ناقشت هذه المعوّقات مع السيد وزير المالية خلال المؤتمر الذى عقده لتدشين الموازنة العامة الجديدة للعام المالى 2017- 2018، إذ بحثت معه عن بدائل تحفيز النمو المستهدف بعد أن تم تثبيط الاستهلاك الخاص والعام بفعل إجراءات التقشّف والإصلاح الضريبى ورفع التعريفة الجمركية.. وتم تثبيط الاستهلاك الخاص برفع معدلات الفائدة لتصل إلى 20% لامتصاص التداعيات التضخمية الخطيرة لقرار التعويم.. ثم ها هى الحكومة تعتزم تخفيض الاستثمار الحكومى فى الموازنة الجديدة بشكل لافت!
الرهان إذن على الاستثمار الخاص – وأنا أزيد- الاستثمار المحلى الخاص الذى لا يلقى بأعباء على ميزان المدفوعات، ولا يتلقّف الأموال الساخنة بكثير من الترخّص فى حق الدولة، ويحقق الكثير من أهداف التنمية المستدامة.
الاستثمار لا يعوقه أسعار الفائدة فقط؛ لأنها فى طريقها إلى التراجع متى تم احتواء معدلات التضخم المتزايدة، لكن الصعوبات البيروقراطية والفساد هما عدو الاستثمار المدمّر.
وقد أشار تقرير البنك الدولى إلى النمو السلبى لقطاعات مهمة مثل السياحة والأنشطة التعدينية؛ نظراً إلى تراجع الاستثمارات فيهما وتردّى الأوضاع الأمنية بالنسبة لقطاع السياحة.
أشاد التقرير موضوع المقال بزيادة تدفّق الاستثمارات الأجنبية خلال الربع الأول من العام المالى الحالى بمقدار 500 مليون دولار، مقارنة بذات الفترة خلال العام السابق (صعدت إلى 1.9 مليار دولار مقارنة بنحو 1.4 مليار دولار)، وهو ما يمكن البناء عليه لتحسين صورة الاستثمار فى مصر لاجتذاب مزيد من الاستثمارات الجادة التى تحقق لمصر أهدافها التنموية.
معدلات النمو التى يرصدها البنك الدولى وتلك التى يتنبأ بها تؤسس على سيناريو متفائل أو على الأقل سيناريو معتدل، لكن السيناريوهات المختلفة يجب أن تكون حاضرة أمام صانع القرار وأمام المجتمع الذى عليه أن يدرك أن تلك الأرقام لا تحقق ذاتها تلقائياً، وأن زيادة الإنتاج السلعى والخدمى مسألة حتمية للخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة.
د. مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر