الشمول المالى ليس مجرد وجود حساب مصرفى للجميع فى المجتمع، بل يتعلق الأمر بإنشاء منظومة تُمكن الأفراد وتشجعهم على استخدام الأدوات المالية فى حياتهم اليومية للتمتع الخدمات، التى يتيحها النظام المالى الرسمى وهى الدفع والائتمان والتأمين والاستثمار. وفى هذا الصدد يمكن تسخير التكنولوجيا من خلال تطبيقات سهلة الاستخدام لتحقيق أهداف الشمول المالى وإحداث أثر ملموس على الفئات المحرومة من الخدمات المالية للاستفادة من المزايا التى توفرها المؤسسات المالية، وعلى رأسها البنوك.
إن القدرة على دفع وتلقى الأموال هى حاجة أساسية لأفراد المجتمع. ولطالما لبى تداول الأموال النقدية هذه الحاجة منذ أن عرفت المجتمعات النقود واستخدمتها كوسيلة للدفع. لذلك أدى الاستخدام المتنامى للنقد كوسيلة أساسية لتسديد المدفوعات إلى إنشاء بنية تحتية مُكلفة لإدارة النقد، وتم تطوير طرق مبتكرة لتبسيط نظم إدارة النقد وجعلها أكثر سهولة وكفاءة. وفى السنوات القليلة الماضية مع التطور التكنولوجى، استُحدثت وسائل للمدفوعات يتم من خلالها استبدال العملات النقدية بالعملات الرقمية، غير أن هذه الوسائل الحديثة للمدفوعات تبدو حلما بعيد المنال لمصر لأسباب تقنية وتشريعية.
فى الآونة الأخيرة كان هناك الكثير من الحديث عن مساعى نحو التخلص التدريجى لاستخدام العملات النقدية لصالح المدفوعات الإلكترونية. وتوقع جون كريان، الرئيس التنفيذى لشركة دويتشه بنك، أن تختفى العملة النقدية خلال عقد من الزمان. ومع ذلك، عند النظر إلى عادات الإنفاق فى ألمانيا التى تعد أكبر اقتصاد فى أوروبا، لا يبدو أن هذا الافترض يمكن أن يتحقق. فما بالك بالحال فى دولة مثل مصر.
جعلت الزيادة السريعة فى استخدام الهواتف الذكية والإنترنت حلم استخدام العملات الإلكترونية يبدو أكثر واقعية فى العشر سنوات المقبلة، خصوصا مع استخدام التكنولوجيات الحديثة التى تحل محل العملات النقدية. دعونا نتذكر مصر فى التسعينيات عندما كانت بطاقات الائتمان ابتكارا حديثاً. استغرق الأمر عدة سنوات حتى أصبح العملاء أكثر اعتمادا عليها بدلا من استخدام العملات النقدية فى تسوية المدفوعات. وبالمثل استخدام الانترنيت فى التسوق الالكترونى وسداد القيمة باستخدام بطاقة الإئتمان أو الخصم المباشر أو البطاقة المدفوعة مقدما. والآن نرى انتشار بطيئ للمحافظ الالكترونية واستخدام التليفون المحمول فى تسديد المدفوعات كوسيلة مريحة وآمنة للاستخدام. ربما يكون من المثير للاهتمام أن نرى أى من هذه الوسائل التكنولوجية تأخذ مركز الصدارة فى تسوية المعاملات.
يمكن أن تقدم المدفوعات الإلكترونية كحل لجعل الفئات التى لا تتعامل مع البنوك أو التى لديها تعاملات محدوة تبدو ذات جدارة ائتمانية مقبولة لدى البنوك. على سبيل المثال، فى الصين حصل الملايين من صغار التجار على القروض استنادا إلى بيانات عن معاملاتهم باستخدام التجارة الإلكترونية والمدفوعات الإلكترونية. وفى الهند، بدأ هذا الاتجاه مؤخرا مع شركات التمويل التى تتحالف مع شركات التجارة الإلكترونية فى منح القروض إلى تجار التجزئة الصغار الذين يبيعون عبر الإنترنت. والميزة هنا أن بائع التجزئة الصغير الذى يقبل الدفعات من خلال وسائل الدفع الالكترونية يصبح لديه بيانات أكثر موثوقية لإثبات جدارته الائتمانية، وسيكون لدى شركات التمويل المزيد من الثقة فى منحه تمويل جديد بالمقارنة مع بائع التجزئة الذى يقوم بتسوية معاملاته نقدا.
حتى فى البلدان النامية التى تعانى مشاكل ضخمة فى النظام المالى والبنية التحتية، اكتسبت المدفوعات الإلكترونية أرضية جيدة تحل محل الاستخدام التقليدى للنقد لتسوية المدفوعات. على سبيل المثال، فى الصومال، البلد الذى تعافى بعد عقدين من الحرب الأهلية، يملك 51 من كل 100 شخص اشتراك فى خدمة التليفون المحمول. تم استبدال النظام المصرفى المدمر بالكامل فى البلاد باستخدام التليفون المحمول. وعن طريق استخدام أنظمة تحويل الأموال التى تشغلها شركة الاتصالات، يستطيع الصوماليون نقل ما يعادل 3000 دولار أمريكى يوميا داخل الصومال. فبالنسبة للعديد من مواطنى الصومال، فإن حملهم الأموال النقدية يجعلهم عرضة للخطر، حيث لا تزال المنطقة تعانى من الاضطرابات الاجتماعية.
ومن ناحية أخرى، يمكن للمعاملات غير النقدية التى يتم تنفيذها إلكترونيا أن تساعد فى منع تمويل الإرهاب، وغسل الأموال، والاحتيال، والتهرب الضريبى، بسبب إمكانية تتبعها. بينما من الممكن للتعاملات النقدية أن تصب فى نهاية المطاف فى السوق السوداء أو الاقتصاد السرى لأنه لا يمكن تتبع الطريقة، التى تتم بها المدفوعات.
يجب تسخير التكنولوجيا الحديثة لتحقيق نجاح ملموس من أجل تنشط المدفوعات الإلكترونية، ومن ثم تحقيق أحد أهداف الشمول المالى. كما ينبغى الاستثمار فى التكنولوجيا المناسبة لضمان تكلفة العملية تكون قليلة للغاية تكاد أن تقترب من الصفر. سواء كانت معاملة من شخص إلى شخص أو معاملة من شخص إلى تاجر، فإن تحويل الأموال من حساب إلى حساب آخر يجب أن تحدث بتكلفة منخفضة للغاية.
على الرغم من المزايا التى يوفرها أداء المدفوعات من خلال الوسائل الإلكترونية، سوف تستمر نسبة استخدام الأموال النقدية فى المجتمع فى النمو بمعدلات مختلفة بسبب القيم والعادات السائدة.ومع ذلك يمكن أن يحدث التحول نحو اقتصاد غير نقدى، بشرط أن توفر شركات التكنولوجيا مجموعة من الحلول المناسبة لهذا التحول.