يظن البعض أن أهم وأخطر ما يجب الاحتياط منه فى أى مناقصة أو ممارسة هو ما يتعلّق بالمظاريف المالية أو العروض المالية، وضرورة أن تتسم عملية فض المظاريف المالية بأقصى درجات الاحتياط! حقيقة هذا باب للفساد ظاهر للعيان ولم يعد المنفذ الأهم لحالات الفساد الكثيرة التى تغص بها المحليات وانتقلت عدواها للمجتمعات العمرانية الجديدة.
المنفذ الأهم والأخطر للفساد يكمن فى المواصفات الفنية، وفى تسليم العقارات والمنشآت والكبارى والأنفاق والطرق وشبكات المياه والرى والصرف الصحى.. بحالة فنية رديئة دون المواصفات المتفق عليها فى العقود ومن قبلها فى الدعوة للمناقصة. العرض المالى يكون منخفضاً للغاية وتنافسياً أكثر من اللازم، نظراً إلى أن مقدّمه يعلم أن الوزن النسبى للعرض المالى عادة ما يكون أكبر كثيراً من وزن العرض الفنى، وفى النهاية فالعرض الفنى يقدّم مستوفياً للمتطلبات الأساسية ورقياً مع سبق العلم بأن المواصفات تختلف عند التسليم نظير الثمن المناسب. لا وزن إذن لسابقات الأعمال إلا قليلاً ولا وزن لسمعة المطوّر وتاريخه إلا كما يحلو لأعضاء لجان الترسية الذين يتمتعون بصلاحيات غير محدودة.
المواصفات الفنية الرديئة تكون سبباً فى حوادث تزيد تكلفتها الإنسانية والمجتمعية والاقتصادية على أى منفعة يمكن أن يأتى بها التعجيل بتسليم المشروعات المتعاقد عليها. ثم يترتب على تلك المواصفات الرديئة غلق للمشروع بعد افتتاحه بأيام أو أسابيع قليلة، ثم تكون عمليات الإصلاح خارج التعاقد بتكلفة جديدة وبعقود جديدة أيضاً يشوبها الفساد، وعادة يكون الإصلاح مستحيلاً للوصول بالمواصفة الفنية إلى الأصل المتعاقد عليه، وإن لم تصدّقنى فانظر إلى مواقع كثيرة معلومة للجميع على الطريق الدائرى الزراعى، وكيف تم العمل على إصلاحها وإغلاقها جزئياً عشرات المرات دون فائدة، وما زالت الشقوق الميول والانهيارات أكبر من أن تخفيها أقماع الصيانة التى لم تكد ترفع لتوضع من جديد وعادة ما يكون ذلك فى أعقاب كارثة أو حادث مخيف.
المواصفات الفنية تحتاج إلى لجان للاستلام، ومعروف بالمحاضر والوثائق كافة أعضاء تلك اللجان، لكننا نادراً ما نسمع عن عقوبات نفذّت على أعضاء لجان كانوا مسئولين عن استلام كبارى سقطت أجزاء منها بعد الاستلام بأيام، ولا بشبكات مياه الشرب والصرف التى تعانى بعد أعوام قليلة انهياراً شبه تام فى مناطق جديدة مثل التجمّع وكثير من الأحياء بمدينة أكتوبر!، ولا بطرق تم رصفها وبعد أيام تمت إعادة الحفر فيها لأعمال الشبكات! ولا لأعمال حفر تتم بشكل عشوائى عند العمل فى أى مشروع جديد تتسبب فى كسر مواسير المياه وقطع خطوط الهواتف وغير ذلك من أخطاء بل خطايا يجب ألا تحدث أبداً لو توافرت خرائط دقيقة لأعمال تلك الشبكات.
أعمال البنية الأساسية هى دعامة مهمة جداً لأى توسّع عمرانى، ولأى تنمية صناعية وتجارية مطلوبة فى المناطق الجديدة على وجه التحديد. عملية الرقابة على تلك المنظومة بأدوات جديدة لإدارة المخاطر المؤسسية، بعيداً عن الجهاز البيروقراطى التقليدى الذى يعانى تراكم الفساد والترهّل، هى ضرورة حتمية وعاجلة إذا أردنا وقف نزيف الهدر والفساد الناتج عن تردّى المواصفات الفنية لمختلف أعمال البنية الأساسية.
البداية تكون بحصر النصوص القانونية واللوائح والقرارات الداخلية المنظمة لإدارة جميع المناقصات على مستوى الدولة، ثم تتم دراسة تعديلها بتضمينها ضوابط حاسمة لإدارة المخاطر، وأخرى للتنبؤ بالأزمات، ثم تتم إعادة هيكلة الإدارات التى سبق أن كانت شاهدة على سابقات أعمال محل شبهة فنية ومالية، مع وضع الضوابط التى سبق أن نصّت عليها اللوائح والقرارات موضع التطبيق الإدارى، بما يتضمنه ذلك من مستويات متعددة للمراقبة.
الإصلاح الإدارى الذى تقع مسئوليته على عاتق وزيرة التخطيط ذات التاريخ المشرّف والسمعة الطيبة والعلم الواسع، يمكنه أن يلعب دوراً مهماً فى وضع إطار عام لإدارة المخاطر المؤسسية بمختلف الجهات الحكومية، وهذا من شأنه تحقيق وفورات كثيرة، فى مقدمتها ضبط منظومة مشروعات البنية الأساسية التى باتت ترهق الموازنة العامة للدولة، ومن المؤسف أن يأتى هذا الضغط على الموازنة مصحوباً بمصارف متعددة للهدر والفساد.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر
[email protected]