منذ أيام.. رحل عن دنيانا رجل كان فى أعلى المناصب بالقطاع المصرفى، ولكنه كان أيضاً فى قمة التواضع.. إنه محمود عبدالعزيز، رئيس اتحاد البنوك واتحاد المصارف العربية ورئيس البنك الأهلى المصرى الأسبق ورئيس البنك التجارى الدولى.
هذا الرجل الذى قوبل رحيله بنعى محدود، كان ناظر مدرسة مصرفية ورائدا من رواد العمل المصرفى سابقا لعصره وبفكره لكثير من نظريات العمل المصرفى.. ولذلك استطاع أن يجعل من البنك الأهلى المصرى أكبر بنك حكومى فى مصر، وكذلك جعل من البنك التجارى الدولى أكبر بنك قطاع خاص.
تخرج من تحت يديه قيادات مصرفية كثيرة عملت معه.. لم يكن يحب الانفراد بالسُلطة.. أعطى صلاحيات واسعة لمعاونيه.. لا يتوانى فى تقديم النصيحة لمن يطلبها.. يقدم أفكاره ببساطة وبتواضع دون كلل أو ملل.. تراه جالسا مع طالب علم أو صحفى ذى شخصية عامة يشرح الأوضاع الاقتصادية بصراحة.. ينتقد قرارات وسياسات حكومية وهو رئيس أكبر بنك حكومى.. كثيراً ما دخل فى معارك وخلافات مع محافظ البنك المركزى وقتها إسماعيل حسن ورئيس الحكومة كمال الجنزورى، كان لا يستطيع السكوت عن قرار أو سياسة خاطئة ولم يكن يخفى أية معلومة عن أحد.. هذا الرجل حول البنك الأهلى إلى جامعة أو أكاديمية اقتصادية لمن يريد أن يتعلم.. له فضل كبير على الصحافة الاقتصادية فى مصر، فهو الذى تحمل وحده تثقيف وتدريب عدد كبير من الصحفيين الاقتصاديين فى النصف الثانى من التسعينيات.
كان يجمع الصحفيين ويشرح السياسات الاقتصادية ويقول ما يجب عمله وينتقد سياسات الحكومة ولا يطلب من أى صحفى أن يكتب ما يريده ولم يكن يغضب ممن ينتقدونه، ساهم فى تأسيس مراكز بحثية ومولها لتدريب الصحفيين.. كان يؤمن بأهمية المعلومة لدى الصحفى وضرورة التواصل مع الإعلام.. حَوَّل الدور 35 و36 بمبنى البنك الأهلى إلى مقر دائم للقاء الصحفيين، لا ينفرد وحده بالحديث بل كان يعطى الفرصة لزملائه من قيادات البنك فى الشرح وتناول القضايا المطروحة، لا يغضب من تصريح أو صورة لأحد معاونيه بالصحف، وكثيراً ما كان يرشح قيادات البنك لتولى رئاسة بعض البنوك المشتركة وقتذاك.
بالفعل.. هذا الرجل كان ناظر مدرسة مصرفية متطورة، هو أول من تحدث عن المصارف الشاملة وأول من أسس قطاعات الاستثمار بالبنوك وتحديداً الاستثمار فى الأوراق المالية، كان مشجعاً لسوق المال.. ويعرف قدر هذا الرجل رواد القطاع الخاص من كبار المستثمرين.. إذ لم يتوان فى مساعدتهم والأخذ بيدهم وعرض كل الخدمات المصرفية عليهم متحرراً من القيود والبيروقراطية التى كانت تقيد كثيرا من البنوك الحكومية، فحوَّل البنك الأهلى إلى أكبر مقرض للقطاع الخاص.. كان جريئاً فى دعمه للقطاع الخاص، مشجعاً له يساهم فى أى مشروع كبير مع أى مستثمر دعماً له.. شجع المستثمرين العرب على الاستثمار فى مصر من خلال الدخول فى مشروعات مشتركة معهم.. فكان مقر البنك الأهلى مزاراً ومحطة مهمة لكل مستثمر عربى أو أجنبى يريد الاستثمار فى مصر.. اختارته جامعة هارفارد فى مجلسها رأس اتحاد المصارف العربية لأكثر من دورة.. كثيراً ما تم ترشيحه لمناصب وزارية أو محافظ للبنك المركزى، إلا أن صراحته وعدم قدرته على السكوت عن أى خطأ كان دائماً سبباً فى استبعاده من هذه المناصب.. حتى إن بعض قيادات الدولة قالت عنه إنه لا يستطيع أن يمسك لسانه وبعضهم قال إن محمود عبدالعزيز مشكلته فى لسانه.. وبسبب هذه الصراحة دخل فى معارك كادت تطيح به، لولا أنه كان يحظى بدعم من الرئيس مبارك الذى كان يرى فيه فكرا اقتصاديا متميزا وعلاقات دولية كبيرة.. وكثيراً ما كان يفصح محمود عبدالعزيز عن تلقيه مكالمات من الرئيس مبارك يسأله عن بعض الأمور، وهذا لم يكن يعجب بعض القيادات فى الحكومة أو البنك المركزى.
وكان الرجل مؤمناً بالمسئولية المجتمعية قبل أن تتحول إلى مبادرات الآن.. فكنا نسمع عن مبادرات ومشروعات تنموية للبنك الأهلى واهتماماً بالفن والفنانين، حتى تحول مقر البنك إلى متحف لأهم اللوحات الفنية.. فالرجل كان متذوقا للفن.. قارئا جيدا، أذكر كيف تَلقَف منى رواية مقتل الرجل الكبير للكاتب الصحفى إبراهيم عيسى وأخفاها فى بدلته فى إحدى الندوات.
وتأكيداً على نزاهة الرجل أنه لم تتم محاكمته كما حدث مع بعض رؤساء البنوك فى عمليات تسهيل الاستيلاء على أموال البنوك فى عهد حكومة كمال الجنزورى وحكومة عاطف عبيد بهروب عدد من رجال الأعمال نتيجة عمليات التعثر الشهيرة التى طالت عددا كبيرا من رجال الأعمال وأدت إلى هزة مصرفية كبيرة وتصدع العديد من البنوك كبنك القاهرة وبنك مصر وبعض البنوك الصغيرة مثل مصر اكستريور والمهندس والتجاريون.. ناهيك عن قضية نواب القروض والتى أثبتت غياب البنك المركزى وقتها عن الرقابة على البنوك المتورطة فى هذه القضية.. ولذلك كان دائماً هناك خلاف بين إسماعيل حسن، محافظ البنك المركزى وقتذاك وهو شخص متحفظ بطبعه لا يتحدث كثيراً ويلتزم بتنفيذ التعليمات من الحكومة.. وهو عكس محمود عبدالعزيز الذى دائماً ما يتحدث ويناقش أى شخص أياً كان منصبه، ولذلك لم يتم المد له كثيراً فى رئاسة البنك الأهلى بعد بلوغه سن التقاعد، وبتدخل من الرئيس مبارك شخصياً تم تعيينه رئيساً للبنك التجارى الدولى عقب ترك رئاسة البنك الأهلى واستطاع أن يُحوِّل هذا البنك ويؤهله ليكون أكبر بنك قطاع خاص استقدم له أفضل القيادات، وكعادته أعطاهم صلاحيات واسعة واستغل أن هذا البنك قطاع خاص فكوَّن قاعدة كبيرة من العملاء، وقدم العديد من الخدمات والمنتجات المصرفية الجديدة ولكن ظل خلافه مع سياسات حكومة الدكتور كمال الجنزورى سبباً فى العديد من المشاكل التى جعلت رئاسته للبنك التجارى الدولى لم تستمر طويلاً، رغم كفاءته ولكن لأن البنك الأهلى أكبر مساهم فى البنك التجارى الدولى تم استغلال ذلك فى الاطاحة به من التجارى الدولى.. وكثيراً ما تحدث الراحل محمود عبدالعزيز عن خلافه مع الجنزورى وأنه كتب لرئيس الجمهورية عن ذلك وأنه كان ينتوى طلب الهجرة من مصر، لولا أن الرئاسة نصحته بالبقاء فى مصر، ورغم أنه تلقى أكثر من عرض للعمل فى مؤسسات عربية ودولية ولدى مستثمرين عرب إلا أنه رفض كل هذا واحتفظ الرجل بصداقته للصحفيين ولرجال الأعمال فى مصر والدول العربية وظل الكثيرين يتواصلون معه اعترافاً بفضله ولكن لم يحظ الرجل بتكريم من الدولة يليق بما قدمه، وحتى عندما توفى كان النعى محدودا ولا يليق بتاريخ وإنجازات هذا الرجل، خاصةً من البنوك التى عمل بها وجعلها فى مقدمة المصارف المصرية والعربية.. رحم الله الرجل الذى علمنا فتذكرناه بكلمة صدق.