ربما لا يعرف الكثير من القراء ما هى وكالات التصنيف الائتماني، وما الدور الهام الذى تلعبه ويؤثر فى قرارات المستثمرين والمقرضين سواء كانوا دولا أم مؤسسات أم حتى أشخاصا طبيعيين؟ تتفاوت درجة المعرفة بين قراءة سطحية لعناوين الأخبار ومتابعة وسائل الإعلام والمواقع الاقتصادية، وبين قراءة أكثر تعمقا من خلال تحليل نشرات البحوث التى تصدرها بنوك الاستثمار والمؤسسات المتخصصة فى البحوث الاقتصادية المستقلة. ولكن السؤال الهام ما زال قائما: إلى أى مدى يمكن الوثوق فى نزاهة وكالات التصنيف الائتمانى العالمية؟ وهل تتوفر أدلة تضع نزاهة تلك الوكالات على المحك؟
اسمحوا لى أولا أن أشرح ما هى وكالة التصنيف الائتمانى وما هى الخدمات التى تقدمها. وكالة التصنيف الائتمانى هى شركة تتم الاستعانة بها لتحديد تصنيفات الائتمان، والتى تقيم قدرة المدين على تسديد الدين عن طريق سداد الفائدة بانتظام، وكذلك تقييم احتمال التخلف عن السداد. ويجوز للوكالة أن تقيم الجدارة الائتمانية لمصدرى التزامات الدين، وأدوات الدين. وتشمل أدوات الدين التى تصنفها وكالات التصنيف الائتمانى السندات الحكومية وسندات الشركات وشهادات الإيداع والأسهم الممتازة والديون المضمونة مثل السندات المدعومة برهن عقارى mortgage-backed securities. وقد يكون المصدرون للالتزامات أو السندات شركات أو حكومات، حيث ييسر التصنيف الائتمانى تداول السندات فى أسواق المال الثانوية. ويؤثر التصنيف على سعر الفائدة الذى يتم دفعه عن السند، فكلما انخفض التصنيف الائتمانى زاد سعر الفائدة التى يتطلب دفعها من قبل الجهة المصدرة، والعكس صحيح، كلما ارتفع التصنيف الائتمانى انخفض مستوى الفائدة.
أما عن الحصة السوقية لنشاط وكالات التصنيف الائتمانى، فيسيطر «الثلاثة الكبار» بحصة تقدر بنحو 95% من الأعمال. وتتحكم كل من شركة موديز وشركة ستاندرد آند بورز فى 80% من السوق العالمية، بينما تبلغ الحصة السوقية لشركة فيتش للتصنيفات إلى 15%.
ومن الأمور المثيرة للجدل الشك فى نزاهة وكالات التصنيف الائتمانى وقيمة التصنيفات الائتمانية للأوراق المالية. فقد بدأت الشكوك تتزايد بعد أن تم تخفيض المئات من المليارات من الأوراق المالية التى أعطيت أعلى تصنيفات من تلك الوكالات إلى الحد الذى أصبحت بلا قيمة خلال الأزمة المالية العالمية فى الفترة 2007-2008. فكيف عجزت عن التنبؤ بحدوث الأزمة المالية؟ وأصبح الوضع الحالى أكثر تشددا تجاه وكالات التصنيف الائتمانى العالمية حتى إن ألمانيا طالبت بتأسيس وكالة أوروبية مستقلة للتصنيف الائتمانى لتسع دول أوروبية، كما توقفت روسيا عن استخدام خدمات وكالات التصنيف الائتمانى الشهيرة اعتبارا من شهر يوليو المنصرم وأعلنت أنها لن تأخذ بتصنيفات وكالات «ستاندر آند بورز» و«فيتش» و«موديز» فى تقويم أوضاع الشركات والبنوك الروسية.
وبالعودة الى الأزمة المالية العالمية فى الفترة 2007-2008، تعرضت وكالات التصنيف الائتمانى لانتقادات من المحققين والاقتصاديين والصحفيين. لذلك قرر الكونجرس الأمريكى تشكيل لجنة التحقيق فى الأزمة المالية، وأيدها الرئيس الأمريكي. وخلص تقرير اللجنة الى ان «فشل» وكالات التصنيف الثلاث الكبرى كان بمثابة تروس اساسية فى عجلة التدمير المالي«. وذكر التقرير أن سندات الرهن العقارى لم يكن من الممكن تسويقها وبيعها دون الحصول على »ختم« وكالات التصنيف بمنحها تصنيفات ائتمانية مرتفعة، خصوصا أن المستثمرين يعتمدون عليها فى قراراتهم، وغالبا يثقون فيما تصدره الوكالات العالمية ثقة عمياء. وفى بعض الحالات، كان يتعين الالتزام بالحصول على تقرير وكالة تصنيف ائتمانى وفقا للتعليمات المنظمة لأسواق المال. هكذا لم يكن من الممكن أن تحدث هذه الأزمة دون وكالات التصنيف التى أضرت بالمتعاملين فى الأسواق.
كان لكل وكالة من وكالات التصنيف الائتمانى أخطاءها الخاصة التى سنتطرق اليها لاحقا. وافقت وكالة موديز على دفع ما يقرب من مليون دولار للوصول الى تسوية مع السلطات المعنية فى الولايات المتحدة نتيجة لتصنيفاتها لسندات رهن عقارى محفوفة بالمخاطر فى الفترة التى سبقت الأزمة المالية عام 2008. وقد وجهت الاتهامات بأن التقييمات تأثرت بشكل مباشر بمتطلبات عملاء بنوك الاستثمار وتحت تأثير أتعاب مهنية مرتفعة.
وفى نفس السياق، فرضت لجنة الأوراق المالية والبورصة SEC غرامة مالية باهظة على وكالة ستاندارد آند بورز بلغت نحو 80 مليون دولار، ومنعها من تصنيف أنواع معينة من السندات المدعومة بالرهن العقاري، وذلك لتسوية قضية »سوء السلوك الاحتيالي”. فقد أصدرت الشركات التى حصلت على تصنيفات ائتمانية عالية من وكالة ستاندرد آند بورز سندات رهن عقارى تبين لاحقا أن لا قيمة لها على الرغم من ارتفاع التصنيفات الائتمانية. كما فرضت هيئة الرقابة على الأوراق المالية فى الاتحاد الأوروبى غرامة قدرها 1.38 مليون يورو على وكالة فيتش لمخالفاتها قواعد التصنيف الائتمانى فى الاتحاد الأوروبي.
على الرغم من أنى لا أميل إلى التقليل من أهمية الدور الذى تلعبه وكالات التصنيف الائتماني، إلا أنى إزاء الحقائق التى كشفت عنها التحقيقات والتقارير والغرامات الباهظة التى تم فرضها، أظن أن تلك الوكالات كانت فى الماضى القريب تعمل وكأنها وكالات تجارية بحتة تتقاضى مبالغ مالية ضخمة تؤثر على الموضوعية والحيادية التى يجب أن تتمتع بها فى أداء أعمالها. وتحت إغراء المال، أصبحت مصداقيتها على المحك. ولكن مازال السؤال الهام دون اجابة. الى أى مدى نثق فى نزاهة وكالات التصنيف الائتماني؟