لا أعرف كيف اقتنعت وزارة المالية بتلك الحملة الإعلانية التى استهدفت بها توعية الشعب المصرى بأهمية وآلية احتساب ضريبة القيمة المضافة! ولا أستطيع حصر الرسائل والقيم السلبية التى ترسّخها تلك الحملة الإعلانية عن عمد أو جهل، فضلاً عن سخافتها وخلوّها من دواعى التبسّم، ناهيك عن الضحك الذى يتسوّله بطل الحملة بأسلوب مبتذل زاعق.
الحملة تقوم على فكرة المواطن «النصّاب» المخادع الذى يريد استغلال فرض الضريبة من أجل رفع الأسعار على المستهلكين وابتزازهم، بينما يقوم بدور الراوى العليم (بلغة النقد الأدبى) شخص يمثّل مصلحة الضرائب نسمع صوته ولا نراه، ليكشف فى ختام كل إعلان أو كل «سكتش» مناط الخطأ فى حجة بطل الحملة، الذى يظهر دائماً نصّاباً محترفاً!
أن تفترض المصلحة أن سوء تطبيق الضريبة واحتمالات التهرّب منها وانعكاسها سلباً على الأسواق هو نتيجة لمشكلة واحدة فقط تكمن فى حيل وألاعيب التجار ضعاف النفوس، فهذا تبسيط مخل ينطوى على تبنّى الوزارة لموقف دفاعى مسبق ضد أى طعن فى تفاصيل احتساب الضريبة، وتعليق أى شك مشروع فى تعقيد وغموض المنظومة على شمّاعة المواطن منتجاً كان أو بائعاً أو مشترياً، وإنكار للصعوبات الفنية والمنطقية المرتبطة بآلية احتساب وتحصيل الضريبة، واحتمال الازدواج وغيره من عقبات (تناولناها هنا قبل ذلك عند صدور القانون المنظّم لها).
الإشارات السلبية للحملة الإعلانية لا تتوقف عند هذا الحد، بل تمتد لترسّخ فكرة المواطن المتهرّب من الضريبة، والبائع الفهلوى الذى يمارس النصب دون تردد، ومع ذلك تريد الحملة تصويره فى هيئة الشخص اللطيف خفيف الظل (بالتأكيد محاولات خفة الظل باءت جميعها بالفشل وتحوّلت إلى سخافة مطلقة)، الذى من المحتمل جداً أن يحظى بتعاطف الجمهور، ويخدّر أى وازع من ضمير لدى ممارسى النصب والتلاعبات الضريبية، خاصة وأن الدولة على دراية بها، بل وتصورها فى شكل ساخر متساهل مع مقترفيها.
بروز بطل الإعلانات فى تجربة مسرحية شديدة الإسفاف لاقت رواجاً شعبياً نتيجة لفرضها أسبوعياً على المواطنين فى جرعات مؤلمة عبر قنوات واسعة الانتشار، ونتيجة لعرضها بأسعار تذاكر منخفضة نسبياً، رشّحه للعب دور بطل الحملة السخيفة بغير منازع، وهو أيضاً اختيار جانبه التوفيق، لأن مراعاة الذائقة الشعبية والارتقاء بها قدر المستطاع يجب أن يكون هدفاً لا يقل أهمية أبداً عن أهداف الجباية المالية.
بشكل عملى، خلت الحملة من أى توضيح للفرق بين ضريبة المبيعات وضريبة القيمة المضافة، والسبب فى التحوّل إلى تلك الضريبة، والعائد الكلى على المجتمع من هذا التحوّل، والعائد الجزئى الذى ينسحب على المشروعات والأفراد.
خلت الحملة من نماذج حسابية مبسّطة يمكن من خلالها إيضاح آلية الاحتساب والتحصيل، وامتيازات الإقرار والاحتفاظ بالفواتير، واهتمت بنكات سخيفة و«إفيهات» لا يصح أن تكون هدفاً لحملة توعية ترعاها وزارة سيادية مهمة!
بقى أن أشير هنا إلى أنصار المدرسة الواقعية الصادمة، الذين يعتقدون أنها صالحة للاستدعاء فى كل شىء وفى أى موقف! هم بالتأكيد يتربّصون بهذا المقال وبالآراء المماثلة، ولديهم رد واحد فقط معلّب ومجهّز خصيصاً للاستدعاء عند أى نقد لكل ما يخالف الذوق ويفسده، بل ولكل ما يهدد أسس مجتمعية مهمة. مدار هذا الرد هو أن تلك الإعلانات والأعمال «الفنية» الأخرى تعكس الواقع! أو أننا نريد دفن رؤوسنا فى الرمال بمهاجمة هذا الأسلوب الصادم، إلى غير ذلك من فهم فاسد واستدلال ضعيف.
الواقعية لا تلزمنى أن أصوّر شخصاً يقضى حاجته أمام التلفاز بدعوى أن ما يقوم به واقع! هناك حدود لما يمكن أن يتقبّله الذوق العام، وهناك مخاطر متزايدة بانحدار منحنى هذا الذوق يضاعف من حدتها الإصرار على تقديم أسوأ ما فى الواقع بغير ستر، وبصورة تحوّله إلى أمر معتاد، وتساعد على انتشار الرذائل وشيوع الفواحش! أن يحدث ذلك فى سينما المقاولات وبإنتاج تجار اللحوم فهذا يمكن فهمه، لكن أن يقع بيد الدولة فهذا أمر غير مقبول.
حملة الإعلانات هى «قلة» قيمة للمواطن وخالية من أى إضافة لمعلوماته، باستثناء الإشارة إلى حدود الإعفاء لبعض الأنشطة والتى كان من الممكن أن تقدّم بصورة أكثر شمولاً وثراءً. استدعاء القيم السلبية دائماً لمخاطبة الجماهير لا يترك إلا أثراً سلبياً ولا يعزز فيهم سوى شعور عام بالتراخى والكسل والعجز من مقاومة الفساد بعد أن استشرى بصورة مقلقة إلى الحد الذى جعل الوزارات السيادية تعرضه بسخرية!
نحن فى حاجة إلى الاستعانة بخبراء علم النفس لدى مخاطبة الجمهور، وفى حاجة إلى استلهام التجارب الدولية الناجحة فى عمل حملات التوعية والدعاية، بعيداً عن نظرية الواقعية ومحاولات التمصير الفاشلة.
د/ مدحت نافع
نائب رئيس لجنة الاستدامة
بالاتحاد العالمى للبورصات