أزمتنا الحقيقية هذه الأيام تكمن فى إهمال السياق العام الذى تتخذ فيه القرارات، وفى اختزال التداعيات الناتجة عن أى قرار أو سياسة فى الأثر المباشر لهذا القرار أو تلك السياسة على مفردة بعينها أو مجموعة مختارة من المتغيرات، دون الالتفات إلى الصورة الكلية ومدى تحقيق القرارات والسياسات للغايات التى من أجلها توجد مؤسسات الدول ومناصبها العليا.
السؤال الخطير الذى يتردد صداه هذه الأيام فى مختلف وسائل الإعلام مداره: ما تقييمك لمدى نجاح أو فشل قرار تحرير سعر صرف الدولار الأمريكى أمام الجنيه المصرى منذ نحو عام من الآن؟ الإجابة التى عادة ما تأتى جزئية أو مبتورة من سياقها إما عمداً أو جهلاً تلقى الضوء على الأثر المباشر المحدود الذى نتج عن قرار التحرير نوفمبر 2016 والذى تسبب فى اختفاء شبه كامل للسوق السوداء للدولار الأمريكى فى مصر، ونشوء ما يشبه نظام صناعة سوق مركزى بالبنوك الرئيسة تتحكم فى المعروض والمطلوب الدولارى بصفة عبر يومية، ولكن عند سعر صرف للدولار يزيد عن مثلىّ السعر الرسمى الذى كان سائداً وقت اتخاذ قرار التعويم، ويزيد بنحو 60% عن متوسط أسعار الصرف فى السوق السوداء قبل أن يقفز الدولار تحت ضغط اضطراب واضح فى السياسة النقدية آنذاك ومماطلة فى اتخاذ قرار التعويم المدار أو الجزئى حتى تراجعت البدئل المتاحة لمتخذ القرار فى هذا الشأن الخطير.
المصرفيون إلا من رحم ربى يرون نجاح عملية التعويم التى تمت العام الماضى لأن قوائم الانتظار قد اختفت، وتوافرت العملة الصعبة إلى حد كبير للوفاء بالالتزامات الأساسية واحتياجات الاستيراد ذات الأولوية، لكن الاقتصاديين ينظرون إلى الصورة من زاوية أوسع من نوافذ الصرافة المخصصة للتعاملات اليومية على العملة الصعبة بالبنوك التجارية!
فالاقتصادى مهموم بأثر السياسة النقدية على مختلف المتغيرات الهامة بالاقتصاد الكلى، وهو مهموم أولاً بالأثر المرتبط بقرارات صانع السياسة النقدية على أهم أهداف السياسة النقدية وهى «استهداف التضخم» الذى يعنى ببساطة العمل على استقرار المستوى العام للأسعار حول معدلات مقبولة، والحد دون التقلبات العنيفة فى قيمة العملة المحلية، خاصة التراجع الكبير فى قيمة العملة وما ينشأ عنه من تضخم فى الأسعار، اقترب من معدلات تاريخية إذ تجاوز التضخم الأساسى 32% سنوياً وتجاوز تلك النسبة كثيراً فى مجموعات سلعية استراتيجية وشديدة الأهمية، لأنها تتصل باحتياجات المعيشة الأولية للقاعدة الأكبر من السكان.
معدلات الفقر التى اتجهت نحو الزيادة كما كشف تقرير الدخل والإنفاق، واقتربت من 28% فضلاً عن نسبة كبيرة حول خط الفقر (الرسمى) ناهيك عن خط الفقر المدقع العالمى الذى تقبع تحته نسبة أكبر من هذا بكثير، هى ناقوس خطر يجب الالتفات إليه، خاصة مع إخفاق أدوات السياسة النقدية دون كبح جماح هذا التضخم لمدة تجاوزت العام!
صار جلياً أن الرفع المستمر فى أسعار الفائدة لم يكن مجدياً سوى فى امتصاص جانب من الصدمة الأولى لقرار التحرير لكن الجانب الأكبر من صدمات التضخم التى لم تخفّ حدتها مع مرور الوقت مصدرها الفعلى هو تراجع الإنتاج وتراجع الواردات ومن ثم تراجع المعروض السلعى كنتيجة مباشرة لانخفاض قيمة العملة الوطنية، فضلاً عن عض السياسات التجارية التقييدية، لكن التعويل على قدرة أسعار الفائدة على امتصاص هذا التضخم هو رهان مستمر على جانب الطلب وعلى توافر فوائض سيولة خارج البنوك، دون تقدير لزيادة المعروض النقدى التى يتسبب فيها البنك المركزى نفسه نتيجة لزيادة طباعة البنكنوت بشكل ملحوظ، ولا للأثر السلبى لارتفاع أسعار الفائدة على آلية خلق الائتمان ومن ثم الاستثمار والتشغيل والإنتاج.
الاقتصادى ينظر إلى أثر تخفيض قيمة العملة المحلية على الدين العام الذى بات يشكّل نحو 35% من حجم الموازنة العامة! وأثر عجز الموازنة المتزايد بفعل الديون (خاصة مع تحقيق فائض أولى متنبأ به) على استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلى، بل وعدم معنوية تخفيض قيمة العملة فيما يتعلق بزيادة الصادرات خاصة أن الزيادة المرصودة لا تعدو أن تكون زيادة فواتير نتيجة لإعادة تسعير المدخلات (المستوردة بشكل كبير) بسعر الصرف الجديد، ومن ثم ارتفعت أسعار صادراتنا ولم ترتفع أحجامها بخلاف ما كان متوقعاً.
الاقتصادى يدرك، أن تشوّهات سعر الصرف غير قابلة للاستدامة، لكن علاج تلك التشوّهات يجب ألا يغفل طبيعة التوازنات التى تحكم الاقتصاد ككل، واختيار النموذج الأمثل لسياسة سعر الصرف هو عملية شديدة الدقة وليس فيها مساحة للدعاية أو القرارات العنترية!
عدد الدول التى تتبنى نظاماً أكثر مرونة لسعر الصرف هو فعلاً فى ازدياد (لاحظ أن تعبير أكثر مرونة هو ما ورد نصاً فى جميع وثائق ومراجعات صندوق النقد) تم ذلك فى البرازيل وشيلى وإسرائيل وبولندا فى العقد الماضى، ورغم المزايا التى ينطوى عليها سعر الصرف الثابت إلا أنه بات ضرورياً التحول نحو المرونة بصورة متدرجة كما يرجّح كثير من الخبراء.
فاعتماد أشكال وسطية من نظم الصرف مثل أسعار الصرف المربوطة ضمن نطاقات تقلب زاحفة، والتعويم المدار هى صور مرنة كان من الممكن اللجوء إليها قبل اعتماد التعويم الحر خاصة حينما تفتقر الدولة الى الإطار المؤسسى الملائم من سوق نقد أجنبى تتميز بالعمق، والقدرة على رصد وإدارة مخاطر تقلبات سعر الصرف، وكما قلت لإحدى خبيرات الصندوق فى مؤتمر دولى لأسواق المال الأفريقية «إنك لا تعوم فى بحيرة جافة».
وقال مدير الجلسة، إن تلك العبارة جديرة بأن تصبح عنواناً للمؤتمر، العلاج بالصدمات الذى تحدث عنه «جيفرى ساكس» ليس وصفة سحرية قابلة للتطبيق فى كل الظروف، خاصة أن كثيراً من وصفات الرجل كانت مناوئة لسياسات صندوق النقد الدولى، ولكن البعض يفضّلون اختيار ما يلائمهم من آراء وأفكار بعد تفريغها من السياق الأكبر كما سبقت الإشارة، وكانت النتيجة سياسات «قص ولزق».
مازال لدينا فرصة لمراجعة وتقييم برنامج الإصلاح المالى والنقدى فى ظل مختلف المعطيات، وفى ضوء تقارير مهمة لمؤسستى بريتون وودز ذاتهما تنتصر للبعد الاجتماعى والإصلاح المؤسسى الذى يمكنه أن يعوّض الكثير من القرارات القاسية، خاصة قرارات تحريك أسعار المحروقات.
د/ مدحت نافع