مرحلة التحول للمعاملات الإلكترونية استغرقت عقوداً
حوافز مالية لإقناع المستهلكين باستخدام أنظمة الدفع الإلكترونى
45 مليار دولار تراجعاً فى النقد المتداول بعد الخدمات الرقمية
76 مليون معاملة مالية خلال عام من استبدال فئات العملات فى 2016
فى 8 نوفمبر 2016، قامت حكومة الهند بشيء لم تحاول أى حكومة أخرى فعله من قبل على نفس النطاق، حيث قررت إزالة %86 من أوراق العملة فى البلاد من التداول لتغيير بعض فئات العملات. وعلى مدى الأشهر التى أعقبت ذلك، شارك أكثر من مليار شخص فى «إعادة تشغيل» النظام المالى والنقدى فى قصة نجاح هى الأبرز فى 2017.
وتوقع البعض، أن الهند على وشك السقوط فى كارثة اقتصادية، لكن الحقيقة التى راقبها الخبراء كشفت عن شىء مختلف تماماً، فهذا التاريخ وضع «نيودلهى» على عتبة التحول الرقمى فى الهند.
وبحسب تقرير مؤسسة هارفريد بيزنس، فإن نظام مدفوعات الحكومة فى عام 2016 كان يعالج 100 ألف عملية شهرياً حتى شهر أكتوبر من ذلك العام، وبعد عام من هذا التاريخ، يقوم النظام نفسه بمعالجة 76 مليون معاملة شهرياً. وفى الوقت نفسه، تشير تقارير وزارة المالية فى الهند إلى أن الاقتصاد الوطنى خفَّض حجم السيولة النقدية المتداولة بنحو 45 مليار دولار. لكن هذا النجاح قام على قاعدة متينة من البنية التحتية الرقمية للهند التى لم تأت للحياة فجأة، حيث أدت مجموعة من السياسات والابتكار التكنولوجى دوراً مهماً بفضل تحرك البلاد بسرعة نحو الاقتصاد الرقمى.
ولفت التقرير إلى أنه قبل الخوض فى تجربة رقمنة الاقتصاد الهندى، تجدر الإشارة إلى أن البناء الديمقراطى القوى، وسن القوانين التى تعزز الشفافية وتشجع الشركات على التسجيل الرسمى يوفران قاعدة بيانات قوية ضرورية لنجاح النشاط الرقمى.
وأشارت الإحصاءات إلى أن الإصلاح الضريبى فى 2016 نجح فى تسجيل أكثر من مليون شركة داخل السوق الرسمى. وتسهم الشفافية فى فتح مصادر جديدة لإقراض المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم بعد تسجيلها الرسمى.
التحول الرقمى فى الحكومة لا يحدث بسرعة
لا يمكن أن تتحقق فوائد التحول الرقمى فى الخدمات الحكومية بين عشية وضحاها، والواقع أنها تنمو بشكل أكبر على المدى الطويل، فى حين أن التكاليف تكون باهظة فى البداية، ما يجعل البعض يقاومها فى البداية، باعتبار أنها تسبب اضطرابات، وتهدد بشكل عام مصالح الوضع الراهن أو على الأقل هناك بعض الفئات المتضررة؛ نتيجة التغيير. ولهذا السبب، فإن النقاش حول العواقب قصيرة الأجل يفتقد إلى حد كبير الرؤية المستقبلية للتكنولوجيا.
كانت السياسات الهندية مصممة بحيث يكون لها آثار ديناميكية طويلة الأمد، لكنَّ الكثيرين رفضوها بيد أن الإقبال المتسارع على الخدمات المالية الرقمية بعد تغيير وقف التداول ببعض العملات، وزيادة الإقراض للمشاريع الصغيرة بعد إصلاح قانون الضرائب كانا مفاجأة لكثير من المراقبين الخارجيين. والحقيقة أن هذا الأداء كان مخططاً له كنتيجة السياسة المقررة التى قامت على تفعيل البنية التحتية الرقمية للهند بشكل واعٍ ومدروس.
ويعكس تعبير البنية التحتية الرقمية جذور تطوير البرمجيات بدلاً من السياسة العامة، ويشار إليها باسم «كومة الهند». ففى عالم البرمجيات، تشير «كومة» إلى طبقات متعددة ومترابطة من خدمات البرمجيات بنيت فوق بعضها البعض. وتتألف كومة الهند من طبقات متعددة، ولكن الطبقات فى هذه الحالة تحددها فئات مختلفة من الخدمات الحكومية. فبحسب قاعدة «كومة» يمكن تعريف قصة الهند مع التحول الرقمى بأنها نظام وطنى للهوية الرقمية معروف لدى القائمين عليه بنظام التعرف الفريد، وبحسب النطق الهندى فإن اسم المشروع هو آدهاار.
تفاصيل طبقات البنية الرقمية
.. «كومة الهند»
بصفة عامة، لم تواكب التطور الرقمى من جانب الحكومة جهود مماثلة فى الأعمال التجارية الخاصة، وقليل من الأنظمة التى كسرت علامة المليار مستخدم، لكنها كانت تنتمى للقطاع الخاص، ونشأ العديد منها فى الولايات المتحدة، مثل فيسبوك وجوجل كأبرز الأمثلة. لكن الاستثناء لهذه القاعدة هو «آدهاار» والتى تعنى «الأساس» أو «قاعدة» فى عدد من اللغات الهندية.
والحقيقة المباشرة، أن النظام الرقمى الهندى هو النظام التقنى الوحيد غير الأمريكى على الصعيد العالمى الذى أدى إلى كسر عتبة المليار مستخدم، والنظام الوحيد الذى وضعه القطاع العام. ويرجع الفضل فى ذلك جزئياً إلى أصوله الفريدة من نوعها فى القطاع العام، حيث تميزت شركة «آدهاار» بأنها وصلت إلى مليار مستخدم بشكل أسرع، نتيجة طبقات البنية الرقمية المتراكمة التى تتمتع بقابلية التشغيل البينى؛ حيث قامت نيودلهى بدورها فى بناء سجلها الخاص من حيث الحجم والنطاق.
أطلقت الهند «آدهاار» فى عام 2009 مع الهدف الذى لا يمكن استيعابه آنذاك، وهو إعطاء كل هندى هوية رقمية واحدة فى شكل إحصاء حيوى موثق مكون من عدد 12 رقماً. هذا النظام الوطنى الفريد للهوية الرقمية يجمع بين أفضل التقنيات المفتوحة لبناء نظام يولد عدداً فريداً من المعاملات يعتمد على إزالة الازدواجية فى المعلومات الإحصائية حول عمليات الأفراد المالية. وفى غضون خمس سنوات من التسجيل الأول للنظام، سجل أكثر من 600 مليون شخص طوعاً وحصلوا على أرقام الهوية الرقمية. ومع ذلك، خلال هذه الفترة الأولية، كانت تحتاج عملية توثيق التعاملات إلى معاملات ورقية وإجراءات مستقلة وشاقة للتحقق من صحة توقيع العميل، ما أدى لاستمرار استبعاد أغلبية الناس فى الهند من الوصول إلى ميزات الخدمات المصرفية.
عندما تولى رئيس الوزراء «مودى» السلطة فى عام 2014، وضع التحول الرقمى فى قلب خططه ولهذا السبب دعم النظام الذى وضعته الحكومة السابقة، وأيضاً زاد بشكل كبير من تمويله، ووسع نطاقه، والأهم من ذلك تضاعف تأثيره.
استخدام التكنولوجيا للانتقال
من الهوية الرقمية إلى الشمول المالى
ومن بين الإجراءات الأولى التى قامت بها الحكومة، إطلاق برنامج الإدماج المالى «جان دهان» فى 28 أغسطس 2014، وفى اليوم الأول الذى تم فيه تنفيذه أنشأت الحكومة 10 ملايين حساب مصرفى باستخدام معرفات «آدهاار» الحالية بطريقة غير ورقية، ما قلل تكلفة اكتساب العملاء الحد الأدنى.
ومنذ ذلك الحين، أنشأت الحكومة أكثر من 300 مليون حساب مصرفى جديدة، وبالإضافة إلى حساب مجانى دون رصيد، يوفر برنامج «جان دهان» تغطية تأمين ضد الحوادث تبلغ 100 ألف روبية هندية، أى حوالى 1500 دولار، بالإضافة إلى تسهيلات سحب على المكشوف قدرها 5 آلاف روبية (80 دولاراً) متاحة لأصحاب الحسابات بهدف تحفيز الناس للمشاركة فى النظام المصرفى الرسمى.
وساهم وجود رقم الهوية الرقمية فى زيادة إمكانية التحقق من الإحصاءات الحيوية مع الحساب المصرفى الذى خلق إمكانية لإضافة طبقة أخرى إلى حزمة الخدمات ومنها الدفع عبر الهاتف النقال وإنشاء حساب مصرفى لتلقى الأموال، ما مكَّن مئات الملايين من الناس المؤهلين لاستلام الخدمات الحكومية فى الهند للوصول إلى تلك الخدمات رقمياً، من البداية إلى النهاية.
فى الهند، تسمى هذه البنية التحتية الرقمية الثالوث «جام»، فى إشارة إلى الربط المبتكر من «جان دهان» (الحسابات المصرفية منخفضة التكلفة) و«آدهاار»، (الهوية الرقمية)، وأرقام الهواتف النقالة. ويمكن أن تحتوى كومة الهند الآن على أربع طبقات: طبقة الهوية، وطبقة الوثائق، وطبقة المدفوعات، وطبقة المعاملات.
ولفهم التأثير البشرى لهذه التغيرات، يجب مراعاة محنة الأم فى قرية هندية مؤهلة للحصول على إعانة حكومية لإرسال ابنتيها إلى المدرسة، فحتى قبل أقل من عامين، كانت ستحتاج إلى ملء استمارة من أجل الحصول على شهادة تحقق من حضور ابنتيها، والتحقق من صحة هذا النموذج من قبل المدرسة، وتقديم هذا النموذج إلى مكتب حكومى. وبافتراض عدم وجود عوائق فى معالجة النموذج، وهو افتراض صعب كانت تنتظر بعد ذلك عندما يسافر النموذج إلى النظام المركزى ليتم إصدار الشيك لها فى حدود استحقاقاتها. وللحصول على الشيك كانت ستحتاج إلى السفر إلى مكتب حكومى. فإذا تبين أن هناك فساداً فى المكتب، فإنها ستكون بحاجة لإنفاق مبلغ نقداً يتراوح بين %15 و%20 من المبلغ الإجمالى قبل تلقى الشيك فى نهاية المطاف. ثم، بطبيعة الحال، سيكون من الضرورى أن تسافر إلى البنك لاسترداد قيمة الشيك. وبالتالى فمن أصل 2000 روبية التى كانت تحق لها، فإنها ستتلقى حوالى 1400 روبية فعلياً.
إذا تم الاعتماد على الطريقة الجديدة، فإن الهاتف الذكى يستخدم للتحقق من هوية السيدة باستخدام «آدهاار» فى مكتب مدرسة بنتيها، كما أن أهليتها للبرنامج مسجلة بالفعل فى النظام، ويرتبط رقمها الآن بحسابها المصرفى الذى تم إنشاؤه لها فى إطار برنامج الشمول المالى «جان دان». وفى غضون 24 إلى 48 ساعة تحصل على تنبيه على هاتفها أن المبلغ الكامل 2000 روبية قد تم تحويله إلى حسابها المصرفى.
وقد كان لهذا النظام تأثير إضافى مماثل على توفير الخدمات الحكومية من خلال عدد من البرامج الأخرى، لا سيما المعاشات التقاعدية وتوفير غاز الطهى، مع مكاسب مماثلة فى نوعية تجربة المواطن والكفاءة الحكومية. ففى برنامج غاز الطهى وحده، تخلى أكثر من 20 مليون شخص طوعاً عن منافعهم التى سبق أن ادعوا أنهم يستحقونها، وهناك أكثر من 25 مليون أسرة تحصل الآن على دعم غاز الطهى مباشرة فى حساباتهم المصرفية. وكما هو الحال بالنسبة للرسوم المدرسية، فإن الإعانة تذهب إلى المستفيدين المقصودين مباشرة، وليس إلى الوسطاء.
العلاج بأسلوب الصدمة عبر
إلغاء فئات من العملة المحلية
بلغ عدد المستخدمين المسجلين فى نظام «آدهاار» 1.18 مليار مستخدم، ورغم أن التسجيل يتم طوعية، فإنَّ وجود رقم الهوية الرقيمة كشرط لربط الحسابات المصرفية، وشرائح الاتصالات وإقرارات ضريبة الدخل، من بين خدمات أخرى، جعل من امتلاك رقم الهوية شرطاً وظيفياً فى المجتمع الهندى اليوم، مثل رخصة القيادة أو غيرها من وثائق الهوية الصادرة عن الحكومة.
لكن حكومة الهند لم تضع البنية التحتية الرقمية كمهمة تقنية بحتة مصممة حصراً لتحسين تقديم الخدمات الحكومية، بل جعلته أساساً لتأسيس بنية تحتية اجتماعية جديدة مع القدرة على زيادة مرونة المجتمع الهندى للتغيير، وبالتالى للمساعدة على دفع الهند إلى الاقتصاد الرقمى فى القرن الحادى والعشرين. وكان نشر الخدمات الرقمية شرطاً مسبقاً مهماً للإصلاحات الهيكلية الرئيسية التى قامت بها حكومة نيودلهى.
إن فكرة تحقيق تحول جذرى فى طبيعة الاقتصاد مع مجموعة من السياسات المنفذة فجأة ليست جديدة، واستندت برامج «العلاج بالصدمات» فى أوائل التسعينيات، التى كان الهدف منها تحقيق التحول من الاقتصادات الاشتراكية إلى اقتصادات السوق فى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتى السابق، إلى فرضية مماثلة. ومع ذلك، وحيثما أتاحت تلك البرامج بيئة تمكن فيها عدد قليل من الأفراد الأقوياء من استخدام كميات هائلة من الأصول التى كانت تسيطر عليها الحكومة سابقاً، فإن العلاج بالصدمات الرقمية فى الهند قد حقق عكس ذلك تماماً، فأعاد تحديد طبيعة التنمية فى نقطة بداية أكثر إنصافاً للمجتمع ككل.
عندما خضعت الهند للتطهير تم إطلاق برامج الرقمنة عبر الثالوث «جام» وأطلقت نيودلهى تطبيق «بى إتش أى إم» وهو واحد من أسرع التطبيقات لتحميل المدفوعات المالية فى التاريخ الحديث، بحيث إنه يخدم كلاً من الهواتف الذكية وغير الذكية، لذلك يمكن لأى مواطن هندى الوصول إلى الخدمات المصرفية، وإتمام عملية الدفع رقمياً.
وملخص النتائج، أن كمية النقد المتداول تقلصت بنحو بحوالى 45 مليار دولار. ولدى البنوك سيولة أكبر بكثير، ما جعل إقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة يرتفع لأعلى معدل، وقد تضاعفت المعاملات الرقمية 760 مرة فى بعض الحالات.
عندما يتعلق الأمر بالنظام الضريبى، أيضاً، فإنَّ الرقمنة الهندية لعبت دوراً كبيراً، ولكى يتحدد حجم التغيير الذى ينطوى عليه هذا التطوير فى السياسات، فمن المهم ملاحظة أن حكومة الهند ذات نظام اتحادى، حيث تتمتع الولايات بسلطات ومسئوليات لا تقل عن تلك التى تتمتع بها الدول فى النظام الاتحادى مثل الولايات المتحدة. وقبل إدخال ضريبة السلع والخدمات، كان على الشركات من أى حجم فى الهند أن تتبع ما لا يقل عن 17 فئة مختلفة من الضرائب على المبيعات والمعاملات، بما فى ذلك الضرائب على القيمة المضافة على مستوى الدولة والرسوم المفروضة على نقل البضائع بين الولايات. وفى 1 يوليو 2017، تم إدراج جميع الضرائب الـ17 فى ضريبة واحدة: ضريبة السلع والخدمات.
ويعنى أثر هذا التغيير فى السياسات نهاية نظام مبهم وغير عقلانى تطور على مدى عقود، وتفاوت فى مختلف الولايات، ليحل محله نظام بسيط وشفاف يطبق على الصعيد الوطنى. ولهذا السبب، فإن الشعار الذى اعتمدته حكومة الهند لإدخال ضريبة السلع والخدمات هو «أمة واحدة، ضريبة واحدة».
المجتمع الهندى يدخل مرحلة التمكين الرقمى تضيف الهند ما يقرب من 110 ملايين مستخدم للهواتف الذكية كل عام، وهى على وشك إطلاق الأجهزة المتوافقة مع نظام «آدهاار» لتوثيق الإحصاءات الحيوية عن السكان المضمنة فى الهواتف والأجهزة اللوحية. وسيدخل برنامج الثالوث «جام» حيز التنفيذ الكامل عندما يتم تمكين المعاملات باستخدام «آدهاار» للهوية الرقمية والتحقق من الشخصية رقمياً، لكى يتم خلق نظام ليس فقط غير نقدى، ولكن بلا بطاقة أساساً. وقد نجحت تجربة تسجيل فى عملاء لخدمة الاتصالات فى الهند باستخدام الرقمنة لنحو 108 ملايين مستهلك فى 170 يوماً بطريقة خالية من الورق ومركزة على الجوال، وهى عملية تكلف العملاء أقل من دولار، مقارنة بـ25 دولاراً بالطريقة القديمة.
الواقع أن الهند تتحرك نحو المستقبل بمعدل لم يسبق له مثيل، والمسار الذى اتخذته للوصول إلى هناك هو الرقمنة.