طب زمن الحروب هو طب من نوع مختلف ومتطلبات تقديم الخدمة تحتاج إلى فكر متطور وسياسات وتجهيزات متنوعة، والتى يجب أن تكون جزء أساسى ومعتاد للممارسات الطبية العادية فى زمن السلم لنستطيع أن نمارسها بنجاح زمن الحرب.
أحكى لكم تجربتى الشخصية كمتطوع ضمن فريق طبى عربى بتمويل من منظمة جامعة الدول العربية Arab League لدولة الصومال فترة أوائل التسعينيات، ما شاهدته بنفسى فوق الخيال وهو نتاج لضياع وتفكك الدولة، ولكنى سأركز على الخدمة الطبية وشكل المستشفيات وهجرة الأطقم الطبية ودور المنظمات العالمية مثل الصليب الأحمر Red Cross ومنظمة حماية الأطفال الايرلندية Save the children ومنظمة أطباء بلا حدود (Médecins Sans Frontières MSF) ومن ثم سأقدم رؤيتى الخاصة فيما يتعلق بشكل المستشفيات وإعداد الأطقم الطبية والمساعدة والتجهيزات اللازمة من حيث القانون والتشريعات وطريقة التمويل لهذا النوع من الكوارث.
التجربة محزنة للغاية والمستشفيات وبالذات مستشفى ديجفر بمقديشيو تم سرقتها على 3 مراحل، المرحلة الأولى «سرقة كل ما هو متحرك» Quick Thift وتشمل سرقة التجهيزات الطبية مثل أجهزة الأشعة والسونار وأجهزة التخدير وكل مخازن الدواء والمستلزمات.
المرحلة الثانية «سرقة كل ماهو ثابت» Fixed-item thift وأقصد بذلك هو شبكة الغازات الطبية والأسقف المعلقة والأبواب والشبابيك والزجاج، أما المرحلة الثالثة فأسميها «سرقة البنية التحتية» Infrastructure Thift فتم سرقة السلوك الكهربائية داخل الحوائط واقتلاع الأشجار من حدائق المستشفيات وكذلك مواسير المياه والصرف الصحى الخاصة بالمستشفى.
كان المرضى يتركون داخل المستشفيات الخاوية من كل شىء «الأطباء والتمريض والمستهلكات والأجهزة» من غروب الشمس حتى بزوغ الشمس خوفاً من القصف الليلى ولغياب الكهرباء وخوفاً من اللصوص وكنت أقوم ضمن الفريق الطبى بالمرور اليومى على المرضى محاطين بالحراس المدججين بالسلاح لحمايتنا من الاعتداء أو الخطف، عندما يطلب من مريض البقاء بالمستشفى فكان عليه إحضار سرير الإقامة من داخل منزله والمنظر المضحك المبكى هو رؤية 4 من الرجال يحملون سريراً منزلياً ينام عليه مريضهم ويسيرون به بالشوارع والأزنقة وصولاً للمستشفى ليقيم عليه المصاب، هذا تصوير بسيط للغاية ليوم واحد من أيام زمن الحرب الأهلية بالصومال.
– مستشفى ديجفر مستشفى عام حكومى ضخم لا أحد من المواطنين يحمل تجاهه أى من مشاعر الملكية العامة ولهذا فأن المستشفيات العامة كلها هى أول من تعرض للنهب وللدمار والقصف والنسيان، واكتشفت فور وصولى أنى طبيب التخدير الوحيد بدولة الصومال وركزت على محاولة الإجابة على سؤال «أين أطباء دولة الصومال».
بالتأكيد الكل يعرف أن زمن الحروب يصاحبه نزيف ضخم لا يتوقف لمقدمى الخدمة وبالذات للكفاءات الطبية والطبية المساعدة ولقد خسرت سوريا أعداد هائلة منهم وكذلك الحال كان ومازال بالنسبة للعراق وليبيا وما حدث فى الصومال شىء خيالى وهو أن الصومال خسر كل الأطباء بالمعنى الحرفى للكلمة وهاجروا جميعاً إلى العالم الغربى وتحديداً كندا.
دعونا نحكى المخاطر التى تعرض لها المرضى بالمستشفيات السورية سنوات الحرب وفق ما طرحته مجلة السياسة الدولية وهو باختصار، المستشفيات أصبحت مستهدفة وان المرضى بالعناية المركزة يتم نقلهم وفصلهم عن أجهزة التنفس الصناعى للنزول بهم بأماكن أكثر أماناً، مما يعرضهم للوفاة لأن ذلك يتطلب تجهيزات مختلفة تماماً عن ما بنيت عليه المستشفيات فى الأصل.
المستشفيات وفق طبيعة تشغيلها تعتمد على البشر (حتى الآن وقبل دخول الذكاء الاصطناعى AI ) وتعتمد بالطبع على البيئة المحيطة والاستيراد من الخارج وهى أمور فى غاية الخطورة أثناء الحروب، شىء آخر فى غاية الخطورة يتمثل فى مخازن الأكسجين وهو مصدر الحياة الأساسى للمرضى وهو محل خطر داهم فهو مثل قنبلة موقوتة تم دفنها داخل المستشفى وستدمر المستشفى بالمرضى مع أول انفجار فى محيطها القريب.
المستشفيات لم تنشأ إلا لاستقبال المرضى وتسكينهم بالأسرة المخصصة لهم، ولكنها لم تنشأ لتحتوى العاملين أيضاً وتسكينهم بالمستشفى وحمايتهم وهو ما يمثل عبئاً ثقيلاً جداً لكيفية وسهولة تقديم الخدمة الطبية زمن الحروب.
من المؤكد أننا فقدنا فرصاً استثمارية ضخمة للغاية خلال الفترات السابقة وحتى الزمن القريب فمنذ أحداث ثورات الربيع العربى والكوارث التى تبعتها من 2011 وحتى الآن فإننا بمصر فقدنا فرصة استيعاب نسبة كبيرة من هؤلاء المصابين Opportunity loss وحصلت الأردن وتركيا والسعودية وإيران وإسرائيل أيضاً على النسبة الأكبر من الأموال التى خصصت لمصابى الحروب، الجميع رأى الحروب من حولنا واقتنع أن الحروب مستمرة وقادمة لا محالة.
السؤال الذى أحاول الإجابة عليه فيما يخص قطاع الصحة (وهو اهتمامى الأساسى)، وهل مصر مستعدة بمستشفياتها ونظامها الصحى والتشريعى لهذه الحقبة المهمة المليئة بالفرص الاستثمارية؟
يجب إعادة التفكير بجدية وبدقة فى طرح تراخيص لبعض المستشفيات بالمحافظات الحدودية والتى قد تكون خلف خطوط المواجهة العسكرية مباشرةً لعلاج المصابين، والتى يجب إنشاؤها فى زمن السلم لتحقق الحماية والعلاج زمن الحرب.
يجب التفكير فى طرح وبسرعة حزمة من المحفزات (تخفيض فى الضرائب، بيع أراضٍ بأسعار رمزية، تخصيص أراضٍ أكبر للخدمات الطبية المساعدة مثل الجراجات والمخازن وخلافه، مما تحتاجه المستشفيات) بنظام حق الانتفاع للمستثمرين (المصريين) والأجانب لجذب المزيد من FDI الاستثمار المباشر الأجنبى وكذلك تعديل القوانين واللوائح التشريعية الحالية بهدف دفع المستثمرين لهذا النوع من البناء لترخيص مستشفيات بنظام الموديولار modular system، والذى يسمح بتحويل العيادات الخارجية إلى ساحة جاهزة ضخمة للطوارئ ويجب الترخيص من الآن بإنشاء وحدة العناية المركزة والعمليات والمعامل والأشعة كلها تحت الأرض، فالأقسام السابق تقديمها هى قلب الخدمة الطبية ويجب حمايتها من القصف المباشر أو من القصف العشوائى ويجب أيضاً أن يتم بناء الإقامة تحت الأرض (هذه النقطة بالذات ستسمح باحتواء الارتفاع الكبير فى سعر الأراضى الطبية بالمجتمعات العمرانية الجديدة) بحيث تتحول إلى عنابر تتحمل أعداداً كبيرة من الإصابات فى وقت واحد، التخصصات التى تحتاجها الشعوب زمن الحروب والعشر سنوات التالية هى العظام والعلاج الطبيعى والمخ وجراحات الصدر وبنوك الدم ووحدات العناية المركزة للكبار والصغار.
تلك أهم التخصصات، ولكن وهو الشىء الطبيعى أن احتياجات الشعوب زمن الحروب تزداد ولا تنحصر فى تخصصات معينة، بل تزداد وبشدة، القضية الثانية وهى التمويل Finance وهو قصة أخرى ولا تقل أهمية عن ما تم تقديمه بضرورة أحداث تغيير حقيقى فى فكر التراخيص الصحية ومراكز الأشعة وكود البناء.
يجب التعامل مع هذه القضية «قضية التمويل» بفكر التأمين الصحى لخدمات الطوارئ وهو ما يستلزم إنشاء صندوق مالى خاص High Risk MEDICAL Fund لتغطية هذه المخاطر وهذا الصندوق المالى يغطى مخاطر العلاج زمن الطوارئ والكوارث الطبيعية والحروب لضمان استمرار الخدمة والحد من هجرة مقدمى الخدمة زمن الحروب.
كيف سنمول “صندوق الخدمات الطبية عالية المخاطر High Risk Medical Fund”: والمقترح هو من خلال أقساط تأمينية يتم تسويقها داخل وخارج مصر ولكل شعوب ومؤسسات الدول ذات المخاطر وهم كثيرين، وكذلك مقدمى الخدمات الطبية المحليين لحماية مؤسساتهم وأعمالهم.
وأخيراً أناشد الآن وليس غداً السادة المشرعين والقيادة العليا الحكيمة، والتى أظهرت أن لها رؤية استراتيجية صحيحة، أناشدهم أن ينتبهوا لهذا الموضوع الخطير والحيوى والذى هو نقطة جذب مهمة وحيوية للاستثمار لأننا الدولة الوحيدة المهيئة لاستقبال وعلاج المصابين من المنطقة كلها “السودان الجنوبى – ليبيا – سوريا – العراق – اليمن وقريباً لبنان”.
أ.د خالد سمير
«خبير فى صناعة واقتصاديات الصحة»
[email protected]