هل يشترى المال الكرامة والإرادة السياسية الحرة للدول؟ أوجه هذا السؤال للرئيس الأمريكى دونالد ترامب بمناسبة تهديده بقطع المساعدات التى تدفعها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدول التى صوتت على مشروع القرار الذى قدمته مصر نيابة عن المجموعة العربية لحماية مدينة القدس، ورفض أى محاولة لتغيير وضعها القانونى. هذا القرار الرافض لإعلان الرئيس الأمريكى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فهل يدرك الرئيس الأمريكى ترامب أن كرامة الدول لا يمكن شراؤها، وأن هذا الأسلوب البغيض من التهديدات بالضغط على الدول، خاصة الفقيرة، لا يصلح لهذا الزمن لأن رغبة الشعوب أن تبقى حكوماتها حرة أبية.
مازالت أمريكا على عهدها بفرض إرادتها بكل غطرسة فى جميع المحافل الدولية وجميع القضايا، فهى القوى الأعظم من بين الدول، وتملك من القدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية ما يعزز فرض سيطرتها على العالم باستثناء أعدائها التقليديين، لذلك فهى تفرض سياسة «لى الذراع» واستخدام جميع وسائل الضغط على باقى دول العالم التى ربما تنتهج مسارات مخالفة، ولعل أحدث مثال على استخدام هذه السياسة هو تلويح الرئيس الأمريكى بوقف مساعدات تقدر بمليارات الدولارات تقدمها أمريكا للدول التى صوتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والذى يرفض قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
تجدر الإشارة إلى أن مجموع ما قدمته الولايات المتحدة الأمريكية لعدد 20 دولة عربية من مساعدات بلغ 10.497.606.716 مليار دولار أمريكى، فى عام 2016 وحده وفقاً لسجلات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتعد مصر والأردن من بين أكبر متلقى المساعدات الأمريكية باعتبارهما من أبرز المشاركين فى عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، غير أن مصر هى الأكثر عرضة لوقف المساعدات لأنها هى التى تقدمت بمشروع قرار خاص بوضع مدينة القدس لمجلس الأمن.
ولتلخيص نتيجة التصويت على مشروع القرار الذى استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضده، صوتت 128 دولة لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما اعترضت 9 دول على القرار، وامتنعت 35 دولة عن التصويت.
بالعودة مرة أخرى إلى تاريخ المساعدات الأمريكية التى تحصل عليها مصر، هى بالقطع استحقاقات وليست “لوجه الله”، أو من أجل “سواد عيون مصر”، تعود المساعدات الأمريكية إلى عصر الرئيس الراحل أنور السادات عام 1978، عندما منح الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر حزمة سنوية من المعونات الاقتصادية والعسكرية التى تحولت لاحقاً فى 1982 إلى منح لا ترد، وتنقسم المساعدات إلى معونة عسكرية قيمتها مليار و300 مليون دولار، ومعونة اقتصادية قيمتها 142.7 مليون دولار.
وتجدر الإشارة إلى أن المعونة الاقتصادية كانت قيمتها 800 مليون دولار، ثم تم تخفيضها إلى 250 مليون دولار، إلى أن أصبحت حالياً 142.7 مليون دولار.
وتتولى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مسئولية إدارة المعونة، حيث يتم ضخها فى برنامج المشروعات الإنمائية، وبرنامج التحويلات النقدية، وبرنامج الاستيراد السلعى، وتشير التقديرات، بأن مصر حصلت على 1.46 مليار فى عام 2016.
الحقيقة أن المساعدات التى تتلقاها مصر سنويا هى كما ذكرنا استحقاقات وليست فى إطار المكرمة الأمريكية، هذه المساعدات يتم تقديمها سنويا إلى مصر والأردن وإسرائيل باعتبارها استحقاق نابع من التوقيع على اتفاقيات السلام، وحتى مع الادعاء بأنها منحة اختيارية، فإن الرفض الشعبى لاستمرار المساعدات مقابل التدخل فى الشأن الداخلى أو التأثير على مواقف مصر الوطنية تجاه قضايا إقليمية ودولية لا يمكن تجاوزه بأى حال من الأحوال لدولة ذات سيادة.
هناك دول رفضت المساعدات الأمريكية حينما شعرت أن سيادتها على المحك، على سبيل المثال، قرر الرئيس الفلبينى رودريغو دوتيرتى التخلى عن مساعدات مالية كانت تقدمها أمريكا للفلبين مقابل تأييد الديمقراطية ومكافحة الفساد من خلال منظمة “ميلينيوم تشالينج كوربورايشن” الحكومية الأمريكية التى تعنى بتطوير النمو الاقتصادى وخفض الفقر، ورفض الرئيس الفيلبينى كل الانتقادات الأمريكية والأوروبية، والتى وجهتها الأمم المتحدة إلى سياسته، موضحاً أنه سيرفض كل مساعدة أجنبية مشروطة.
كلمة أخيرة اسوقها لبنى وطنى، لن تنهض الشعوب الحرة الأبية بالمعونات والمنح والمساعدات، تبنى الأوطان وتحقق مكانتها بين الأمم بسواعد أبنائها والاعتماد بصفة رئيسية على مواردها، حتى لا نصبح دولة تابعة بينما نمتلك حضارة عريقة تعود إلى 7 آلاف سنة.