وكالات التصنيف الائتمانى (التى هى حياديتها وموضوعيتها أصلاً موضع شك)، المؤسسات المالية العالمية (من صندوق النقد الدولى عبوراً بالبنك الأفريقى للتنمية ووصولاً إلى مؤسسة التمويل الدولية) ومعهم بيوت الخبرة المحلية والعالمية «غُلب حمارها معانا»، كما يقول لدينا الفُم الشعبى.
فهم وبالرغم من امتلاكهم لخبرة تاريخية طويلة ومجموعة من أفضل المحللين الماليين على وجه المعمورة، دائماً ما تخيب توقعاتهم فيما يتعلق بالاقتصاد المصرى وكأنهم حلت عليهم لعنة «وكذب المُنجمون ولو صدقوا»، كلما اقتربوا من أبواب «أم الدنيا» ويتحولون بين عشية وضُحاها إلى طلاب خائبين فى الصف الأول من كلية اقتصاد وتجارة خارجية.
ولا يتغير فى هذا الأمر شيئاً سواء كان فى خصوص سعر صرف العملة الأجنبية أو معدلات النمو أو نسب التضخم أو الدين الخارجى وخلافه وكأن الاقتصاد المصرى برمته أصبح مستعصياً على المنطق البشرى أو فيلم من أفلام الخيال العلمى وربما هو كذلك بالفعل، ويرجع الأمر غالباً إلى أنهم جميعاً ينطلقون من فرضيات لها وجاهتها نظرياً بشكل مُجرد ولكن لا محل لها من الإعراب فى واقع بلاد مصب النيل.
فهم على سبيل المثال يفترضون أن تحركات سوق الأوراق المالية يمكنها أن تكون مؤشراً مُعبراً عن التوجهات المستقبلية للاقتصاد إجمالاً، كما هو الحال فى معظم دول العالم المتقدم أو شبه المتقدم ويغفلون فى ظنهم هذا أن المؤشر الرئيسى والأهم للبورصة المصرية المُتضمن 30 شركة تسيطر على ما يزيد بقليل عن 10% منه شركة واحدة فقط وهى «البنك التجارى الدولى» بقيمة سوقية 85 مليار جنيه من إجمالى رأسمال البورصة البالغ 812 مليار جنيه (أرقام نهاية شهر ديسمبر الجارى) وبما يصل إلى 15% من إجمالى حجم التداول اليومى فى بعض الأحيان، أى أن هبوط وصعود البورصة هو فى الواقع انعكاس لأداء سهم التجارى الدولى دون غيره وليس الاقتصاد الكلى.
وتتجاهل تلك المنظمات أيضاً الخلل الواضح فى توزيع الثروات والمائلة بشكل غير طبيعى إلى الطبقات شديدة الثراء، والتى غالباً ما تنفق جزء كبير من أموالها إما بالخارج أو على المنتجات المستوردة أو سلع شديدة الرفاهية لا تخدم سوى جزء ضئيل جداً من الاقتصاد القومى وبالتالى تصبح توقعات النمو وفقاً لمعيار الدخل القومى غير متسقة مع واقع الإنفاق المحلى.
هذا بالإضافة إلى أن تقديرات الناتج المحلى الإجمالى يشوبها الكثير من العوار لما كان قطاع ضخم للغاية من الصناعات المحلية ليس فى حقيقته سوى صناعات تجميعية لا يدخل فيها سوى جزء ضئيل جداً من المُكونات المحلية بينما يأتى سوادها الأعظم مستورداً من الخارج.
ويجب التنويه كذلك إلى أن البيانات الإحصائية فى مصر بشكل عام تنقصها الدقة والمصداقية بدرجة كبيرة جداً لحد أنها غالباً ما تخرج مُشوهة لا علاقة لها بحقيقة الأمور وكأنها من كوكب زحل وبما تنتفى معه إمكانية أن يُبنى عليه أى توقع مستقبلى له أى حيثية فعلية أو حتى ولو القدر الأدنى من الدلالة التى يمكنها أن تكون أرضية فعلية لطرح أى شكل من أشكال الرؤى ذات الأهمية.
خلاصة القول: نحن بحاجة ماسة إلى به المزيد من التنوع والقدرة على الشفافية بما يكفل أسس صلبة لتوقعات ذات حيثية تبث الطمأنينة فى نفوس المستثمر الأجنبى والمحلى على حد سواء ويبحث كليهما عن بيئة استثمارية تكون فيها دراسات الجدوى ذات معنى حقيقى وتخرج فيها التشريعات منضبطة وفى إطار زمنى معقول (ولنا فى قانونى الاستثمار والتفاليس عبرة مُرة) وتكون إجراءاتها منضبطة وواضحة المعالم ولا تُتخذ فى إطارها قرارات متسرعة بين اللحظة والأخرى تفاجئ الجميع وعلى رأسهم المسئولين أنفسهم فتأتى تصريحاتهم مضادة لما يحدث على أرض الواقع أو مُبهمة ومثيرة للريبة فى أفضل الأحوال.
هذا هو ببساطة شديدة ما نحتاجة لإحداث الطفرة الاقتصادية المرتقبة التى تطالبنا الحكومة أن نتحمل جميع الصعاب من أجلها، فهل هناك ولو أذن واحدة لمن تنادى أم سنظل نسبح فى الفراغ؟
محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى